بلغ لبنان مرحلة «المخاض العسير» قبيل تعذُّر استمرار دعم المواد الاساسية والغذائية التي تشكل مع أكلاف الخدمات العمومية نحو 40 في المئة من متوسط المصروفات الشهرية للأسر، بينما يسيطر التضخم بمعدلات قياسية تقارب 500 في المئة على تسعير السلع المستوردة غير المدعومة، ويبلغ في المتوسط نحو 160 في المئة على مجمل أبواب الانفاق.
وما من إشارات محققة أو موعودة، حتى الساعة، تنبىء بمبادرات وقائية فعالة تتولاها الدولة وتكفل جبه وحش الغلاء المتربّص بمعيشة المقيمين كافة، المنهكين أساساً بتقلص مداخيلهم وقدراتها الشرائية والصرف من العمل، بعد سنة ونصف سنة من التدهور المريع الذي ضرب بشراسة معظم الركائز الاقتصادية والاجتماعية. فحتى اقتراح توسيع ايصال مساعدات نقدية شهرية مباشرة ليبلغ سقف 750 ألف عائلة، أي نحو ثلثي الأسر وفق الاحصاءات، لا يزال طور البحث عن آليات التمويل ومصادره.
وفي حين يستمر تراجع سعر النقد الوطني قريباً من عتبة 13 ألف ليرة لكل دولار وترتفع المخاوف المشروعة من رحلة صعود جديدة لسعر الدولار بدفعٍ من انسداد أبواب الحلول المقترحة لإخراج الأوضاع الداخلية من شرنقة الخلافات التجاذبات والنأي بملف الحكومة العتيدة عن دوامة المحاصصة المستندة الى «حقوق» فئوية وطائفية مزعومة، يسير مشروع القانون الذي تعدّه حكومة تصريف الأعمال في شأن ترشيد الدعم والبطاقة التمويلية بسرعة «السلحفاة» قبيل تبيان ماهية حسمه ضمن المسار النيابي المتوقع خلال الشهر الحالي.
وتشير مصادر اقتصادية ومالية متابعة الى حقيقة معلومة تتمثل في قصور أي معالجات موقتة أو تسكينية عن رد التدهور الدراماتيكي المرتقب الذي سيضرب «خبط عشواء» في صميم أزمات معيشية واجتماعية استفحلت بحدة بالغة على مدى الأشهر الماضية، فالكل يدرك أن الاحتياطات الحرة من أي التزاماتٍ مُقابِلة شارفت النفاذ لدى البنك المركزي، وربما يتم استهلاكها تماماً في غضون شهرين أو ثلاثة بالحد الأقصى ما دام أركان السلطة يتقاذفون كرة المسؤولية ويتجنّبون تجرع «كأس» القرار الصعب.
ومن الواضح، بحسب المصادر، أن التوجه لإعادة هيكلة الدعم عبر حصْره بمواد استراتيجية واعتماد بطاقة المعونة النقدية يتسم بالجدوى «النظرية» فقط، كونه يفتقد في أساسه إلى تحديد مصدر التمويل وخصوصاً لجهة تأمين السيولة بالدولار لدعم مستوردات المواد الاستراتيجية، أي المحروقات والقمح والأدوية، وفق النسب التي سيرسو عليها القانون المرتقب. كما يتعذر على المرجعيات المعنية التأكد من استمرار جدوى الدعم النقدي بما يماثل مئة دولار شهرياً لكل أسرة تبعاً لأسعار الصرف السائدة حالياً في الأسواق الموازية.
ويفضي التحقق من مصادر تمويل مبادرةٍ تَشارُكية إلى ثلاث قنوات محتملة بالانفراد أو بالتشارك بينها. الخيار الأول الاتكاء على احتياطات الودائع لدى البنك المركزي البالغة نحو 16 مليار دولار وإجازة الصرف منها عبر خفض النسبة الالزامية أو الاقتطاع وفق مفهوم «الضرورات تبيح المحظورات». والخيار الثاني تحميل الأعباء كلياً أو جزئياً على المالية العامة من خلال زيادة الاقتراض من البنك المركزي وطباعة كميات إضافية من العملة. أما الثالث فيقع ضمن باقة «الآمال» باستنهاض عزائم الدعم من مصادر خارجية.
ومن المعلوم أن منظومة المساعدات الواردة من الخارج تساهم في الحد من سرعة التدهور المعيشي، وخصوصاً عبر القرض الميسر من البنك الدولي بقيمة 243 مليون دولار ومن خلال إدارته للصندوق الائتماني الدولي المخصص للبنان بدفعة أولى بلغت 55 مليون دولار. إضافة إلى المساعدات الطارئة المتصلة بالتصدي لوباء كورونا، وحزمات المعونات التي وصلت غالبيتها الى جمعيات من المجتمع المدني عقب الانفجار الكارثي الذي ضرب مرفأ بيروت في الرابع من اغسطس من العام الماضي.
وفي تقييم المصادر لهذه الخيارات استخلاصٌ مسبق لفاعلية محدودة وموقتة، لن تلبث أن تنضوي ضمن سلسلة المعالجات التسكينية العقيمة التي تم اعتمادها في الفترة الماضية. فالصرف من احتياطي الودائع عقب استهلاك نحو 9 مليارات دولار من الاحتياطات الحرة على مدى 18 شهراً، لن يستهلك «الرمق الأخير» فحسب، إنما سيقضي بالتوازي على بقية مدخرات الناس المحبوسة، وفي الأصل لا يستقيم مطلقاً إعانة الناس بجنى أعمارهم وترْكهم لمصيرهم في مرحلة لاحقة. أما الركون إلى المالية العامة فهو كتعبئة الماء في سلة قش ما دامت الموارد المالية للدولة تنحدر بشدة وتشارف الجفاف عند احتسابها بسعر الصرف الواقعي. ويبقى الخيار الثالث وهماً باعتبار أن المجتمع الدولي متفق بما يشبه الإجماع على أن مساعداته مشروطة بتقدم الحلول السياسية الداخلية.