كشف بحث جديد كيف تؤدي الآلية الطبيعية التي تساعد الثدي على التكيف مع الرضاعة إلى تراكم خلايا تسبق نشوء السرطان في الثدي.
كان الرابط بين الرضاعة وسرطان الثدي محور دراسات عدة. اقتبس “معهد السرطان الوطني” محتوى بعض الأبحاث التي تعتبر أن خطر إصابة المرأة بسرطان الثدي يرتفع بدرجة إضافية بعد الحمل والولادة مباشرةً.
لكن يكون هذا الخطر موقتاً ويظن العلماء عموماً أن الرضاعة تُخفّض احتمال نشوء سرطان الثدي، إذ تصاب %3 من النساء فقط بهذا السرطان في مرحلة الرضاعة.
يسمح بحث جديد الآن بتسليط الضوء على الرابط القائم بين الرضاعة وسرطان الثدي، فقد كشف العلماء كيف يمكن أن “تخطف” خلايا سرطان الثدي آلية جزيئية تُشكّل جزءاً طبيعياً من مسار الرضاعة وتستعملها لمساعدتها على الصمود.
تولّت آني واري، أستاذة مساعِدة في المركز الطبي التابع لجامعة “جورج تاون” في واشنطن، قيادة الدراسة الجديدة التي نُشرت في مجلة “اكتشاف موت الخلية”.
دور الالتهام الذاتي في الرضاعة
بدأت واري وزملاؤها بدراسة مسار “الالتهام الذاتي” لدى الفئران. يشير هذا المفهوم إلى “عملية ذاتية التدهور” تؤدي أدواراً مهمة لحفظ الجسم، إذ تساهم مثلاً في التخلص من البروتينات الشائبة ومخلفات الخلايا فضلاً عن أداء وظائف أخرى.
يُعتبر مسار الالتهام الذاتي آلية للصمود، وقد ذكرت بعض الدراسات أنه يمنع نشوء الأورام.
لكن يقول المشرف الرئيس على الدراسة، روبرت كلارك، أحد مدراء “برنامج سرطان الثدي” في جامعة “جورج تاون” وعميد البحوث في المركز الطبي التابع للجامعة، إن دور الالتهام الذاتي على مستوى المعطيات الفيزيولوجية الطبيعية للغدد الثديية وسرطان الثدي بقي غامضاً.
يوضح كلارك: “لم نكتشف كيف يتم تنظيم هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة بين صمود الخلايا في القنوات أو موتها. كانت دراسات سابقة قد ركزت على مسار مختلف: موت الخلايا المبرمج، وهو شكل مختلف من موت الخلايا”.
في الدراسة الجديدة، كشف الباحثون أن الالتهام الذاتي يساهم في التحكم بمدى قدرة الخلايا التي تنتج الحليب خلال الرضاعة على الصمود أو الموت بعد انتهاء الرضاعة.
تقول واري: “تُحدد الدراسة للمرة الأولى التبدّل الجزيئي الذي يتحكم بمصير خلايا الثدي التي تنتج الحليب: إنها استجابة البروتين الظاهرة التي تُنشّط عملية الالتهام الذاتي”.
يوضح كلارك من جهته: “أثبتنا أن مسار موت الخلايا المبرمج منفصل عن مسار استجابة البروتين الظاهرة والالتهام الذاتي، مع أن هذه العمليات كلها تتعاون في ما بينها بكل وضوح”.
الالتهام الذاتي القابل للعَكْس وسرطان الثدي
حللت واري وفريقها عملية إعادة تشكيل الثدي التي تمتد على مرحلتين وتحصل بعد الرضاعة: إنها عملية الالتفاف.
يوضح الباحثون أن مرحلتَي إعادة تشكيل الثدي تحصلان خلال الرضاعة والفطام. في المرحلة الأولى، تُشغّل خلايا الثدي نمط الصمود لمتابعة إنتاج الحليب عبر قنوات الحليب حين تأخذ الأم استراحات قصيرة من الرضاعة. تُسمّى هذه المرحلة الالتفاف القابل للعَكْس.
أما المرحلة الثانية، فتتعلق بفترة ما بعد الفطام حيث تُشغّل خلايا الثدي نمط الموت، ما يعني عودة الغدد الثديية إلى وضعها الطبيعي وتوقف إنتاج الحليب. تُسمّى هذه المرحلة الالتفاف غير القابل للعَكْس.
لدراسة هذه التغيرات، استعمل الباحثون نموذجاً من الفئران الجينية لتجسيد نقص الالتهام الذاتي. كما أنهم استعملوا نوعين مختلفين من الأدوية لكبح عملية الالتهام الذاتي أو تحفيزها. اكتشفت واري وزملاؤها أن تراكم بروتينات الحليب في قنوات الحليب حين يتوقف صغار الفئران عن الرضاعة يطلق استجابة البروتين الظاهرة.
في المقابل، سينشط أيضاً نمط الصمود الخاص بالالتهام الذاتي. حين يستأنف صغار الفئران الرضاعة ويتجدد إنتاج الحليب، تعود استجابة البروتين الظاهرة وعملية الالتهام الذاتي إلى مستوياتهما الطبيعية.
لكن يكون تراكم بروتينات الحليب خلال فترة الفطام مسؤولاً عن إجهاد الخلايا، ما يؤدي إلى تشغيل نمط موت الخلايا في عملية الالتهام الذاتي.
أوضح أحد الباحثين أن إشارات الصمود خلال الالتهام الذاتي القابل للعكَسْ قد تساعد الخلايا التي تكون في مرحلة ما قبل السرطان على الصمود، مثلما يمكن أن يؤدي تراكم خلايا غير طبيعية في الثدي إلى نشوء السرطان.
تضيف واري: “من المبرر أن تتطور خلايا غير طبيعية في نسيج الثدي لأن الغدد الثديية تخوض تغيرات عدة على مر حياة المرأة، وقد يؤدي هذا التدفق الدائم إلى تراكم بعض الخلايا غير الطبيعية”.
معالجة سرطان الثدي بدواء الملاريا
أخيراً، اكتشف الباحثون أن دواء الكلوروكين الخاص بالملاريا قد يكبح الالتهام الذاتي خلال عملية الالتفاف، ما يدفع الثدي إلى استرجاع وضعه الطبيعي. يوضح الباحثون أن هذه النتائج تدعم دور الكلوروكين كعلاج لسرطان الأقنية في الموقع.
كتب الباحثون: “إنها أولى البيانات التي تشتق من تفاعلات الجسم الحي وتدعم التجارب العيادية التي تختبر العوامل الكابحة للالتهام الذاتي منعاً لتحوّل الأورام الخبيثة داخل قنوات الثدي إلى سرطان حاد.
لكن يشدد الباحثون بكل وضوح على أن هذه النتائج لا تعني أن الرضاعة تزيد خطر الإصابة بسرطان الثدي.
تقول آني واري: “ثمة رابط واضح بين الرضاعة وتراجع خطر سرطان الثدي. قد يتعلق السبب بتشغيل نمط موت الخلايا المبرمج بعد إنهاء الرضاعة، ما قد يؤدي إلى القضاء على الخلايا غير الطبيعية. مع ذلك، يبقى الرابط بين إعادة تشكيل الثدي وسرطان الثدي لغزاً مُحيّراً لكننا نستطيع الآن أن نضيف قطعة جديدة ومهمة إلى هذه الأحجية”.