هكذا تُقاتِل ووهان «كورونا»… «العدو غير المرئي» والفتّاك

أن تكون لبنانياً في ووهان في «زمن الكورونا»، فهذا يجعلك في عيْن لعبةِ العتمة والضوء… عتمةُ الخوف من الفيروس المُرْعِب، الكاسر والمجنون الذي «يعتقلك» في البيت كأنك في «إقامة جبرية»، وفي الكمّامة، خطُّ دفاعك الوحيد. تَسْكُنُكَ الكوابيس وتَسْكنها، فتقبض على حركتك وأنت تراوح مكانك، وعلى أنفاسِك المحبوسة في انتظار الصعداء… أما الضوءُ، فهو تلك العدسة التي تطلّ بك من خلْف سور الصين العظيم على الشاشات الكبيرة أو المحمولة، وكأنك سفير الجموع المترامية على امتداد الأوطان، في «بلد المنشأ» الذي يُصارِع هذا المٌنْتَج المخيف وفواجعه، بعدنا تَسَلَّل إلى دول ومجتمعات أخرى في «عوْلَمةٍ» مميتة.
أن تكون لبنانياً في ووهان في «زمن الكورونا»، يعني أنك أدهم السيد، الطالب الجامعي الذي يُعانِدُ أهوالَ الفيروس الذي جعل العالم قاطبةً على أعصابه. أدهم، الذي دَفَعَتْه «الكورونات» السياسية في بلاده يوماً إلى طلب العلم ولو في الصين التي اختارها للدراسة فحصّل الماجيستير ويطمح لشهادة أكبر، آثَرَ البقاءَ في المدينة التي صارتْ عاصمةَ الفيروس المستجدّ الذي يضاهي ما جاء في أفلام الخيال العلمي… لم يُغادِر مغامرةَ مواصلةِ العيشِ تحت سماء واحدة مع هذا «الغدّار» الذي أصاب حتى يوم الجمعة، في الصين وحدها 66 ألفاً وخَطَفَ أرواح أكثر من 1500 شخص.
«الراي» تواصلتْ مع أدهم السيد، ابن بلدة برجا على ساحل الشوف، والواقعة بين مدينتيْ بيروت وصيدا، في محاولةٍ لتقصّي الأوضاع في ووهان، فرَسَمَ يومياتٍ كأنها «وقت مستقطع» في حياة تبدو «مُعَلَّقَةً» انتظار… «مرور العاصفة».
يقول أدهم إن الصين «تحتضن رقماً هائلاً من أعداد الطلاب الأجانب، وخصوصاً ووهان التي أنشئت فيها أشهر الجامعات والمعاهد الدراسية التي أضحت مركزَ جذْب لنحو 4500 طالب ينتمون إلى جنسيات مختلفة… أميركيون، ألمان، إسبان، فرنسيون، ومن بلدان أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وغيرها».
ويضيف: «طبعاً، هناك طلبة من مختلف البلاد العربية، غالبيتهم في إطار اتفاقيات التعاون والتبادل. من مصر والمغرب وسورية ولبنان والسودان واليمن والجزائر… بالإضافة إلى طلبة يتابعون دراستهم في الصين على حسابهم».
عن الحياة في ووهان والصين عموماً، يؤكد أدهم: «الحياة هنا متطورة جداً، والعيش فيها آمن بشكل كبير. ليست هناك نقود، فكل شيء يتم بواسطة الإنترنت، والمواصلات متوافرة ومريحة، مترو وباصات و… والأمان منتشر بشكل استثنائي».
تقع ووهان وسط الصين، وفيها أكبر محطات قطارات سريعة في العالم، وتُعتبر مدينة محورية وسياحية تحتوي على أجمل البحيرات، بل تسمى بـ«مدينة الـ100 بحيرة».
أما عن الحياة حالياً في ووهان، فيقول بلا تردد «إنها حياة غير طبيعية»، مع تشديده على العبارة. و«الدليل على ذلك أن السلطات الصينية عزلت المدينة»، ويضيف: «كيف يمكن أن تتوافر الحياة العادية أو القول إن لا مشكلة في المدينة؟ّ لقد تم إعلان حال طوارئ طبية قصوى فيها. فالفيروس في ووهان منتشر بشكل كبير، وخصوصا بعد 23 يناير الماضي».
ويتابع: «لكن ما أقوله هو أن حياتنا تحوّلت في ووهان إذا شئتِ، إلى شيء طبيعي وسط واقع غير طبيعي، كمَن يعيش أجواء حرب، بمعنى أنه في الأيام الأولى من الحرب يختنق ويضطرب ويتملّكه هلع وخوف شديد، لكن حين تطول أيام الحرب يبدأ بالتكيّف والتآلف مع أخطارها، في محاولةٍ منه للتأقْلم مع شراستها وعدوانيتها. وهنا في ووهان نعيش حرباً من نوع آخر، حرب ضد عدوّ غير مرئي، ضد فيروس فتّاك».
وحول الإشاعات التي تنتشر كالنار في الهشيم، يرد بنفي كل الإشاعات، «كونها غير صحيحة البتة. فووهان لم تصبح مدينة أشباح، ولا الناس مُحاصَرون في منازلهم أو يسقطون فجأة موتى على الطرق، فهذا ليس صحيحاً بالمطلق. أما الصحيح فهو أن ووهان غير طبيعية، ولم تعد المدينة التي نعرفها وعشنا ونعيش فيها. يمكن أن أسمي ما يحدث هنا كما ذكرتُ قبل قليل بواقع حرب. فالمدينة تُقاتِل ضد الفيروس، وتحاول أن تقف على رجليْها من جديد وتستعيد حيويتها».
وعن الإجراءات التي تتخذها السلطات للقضاء على الفيروس، يقول الطالب اللبناني إنه كسائر المواطنين الصينيين «لديّ كامل الثقة بالدولة وبأنها ستسيطر على الفيروس. وهذا نتيجة تجارب كثيرة ثبت معها يعرف كيف يشتغل الصينيون وكيف يفكّرون، فلدى الصين خطط لكل طارئ. ولا أحد بإمكانه أن يتخيّل في العالم الآن وفي ظلّ هذا الوضع غير الطبيعي أنك لن تجد ورقةً مهملة على الطريق. لا يزال عمال النظافة في الشوارع يعملون في أوقاتهم العادية ويكنسونها وفي مواعيدهم بالليل والنهار. ولا تزال الصيدليات تفتح أبوابها… هؤلاء الناس قاموا ببناء مستشفى في مدة لا تتجاوز عشرة أيام. والناس يساعدون بعضهم البعض، ولديهم ثقة كبيرة بالحكومة التي تعمل بإمكانات ضخمة».
وحول ظروف الصمود ضد الفيروس وحدودها، يجيب «إن ظروف ومتطلبات صمودنا موجودة، الأكل والدواء متوافران. ونحن نلتزم بتعليمات السلطات»، موضحاً أن ووهان مدينة مقفلة، ومنذ نحو أسبوعين انطلقتْ عملياتُ إجلاءٍ لبعض المقيمين من الأجانب.
ويضيف: «اتُخذت الإجراءات اللازمة ضد انتشار الفيروس بعد 23 يناير الماضي، ومن المستحيل تمييز غير المصاب من المصاب بالفيروس، فهذه عملية مستحيلة، لأن عوارض الفيروس لا تظهر إلا بعد 14 يوماً من الإصابة. التعليمات تقول بعدم الخروج ومغادرة البيوت إلا عند الضرورة، خصوصاً في ما يتصل بشراء المأكل أو الدواء. محلات التسوّق والصيدليات ظلت مفتوحة. ومن الواضح أن هناك خطة حكومية مدروسة، الحركة ضعيفة في المدينة، وكانت كذلك قبيل أيام من انتشار الفيروس، إذ صودف عيد الربيع، أي رأس السنة الصينية، وفيه أطول عطلة هنا. كانت المدينة مقفلة وبقيت كذلك بعد اكتشاف الفيروس، حيث تم تمديد العطلة مرات».
ويتابع: «رغم أنه كما قلتُ طُلب من الناس ألا يغادروا منازلهم إلا عند الضرورة القصوى، لكن الواقع ليس كما تروّج له الإشاعات عن مدينة أشباح استسلمت للموت. لا، المدينة تقاتل وتكافح بضراوة، وعندما تظْهر أعراض الفيروس يذهب المصاب إلى المستشفى من دون أن ينقل العدوى إلى آخَرين. وقد حوّلوا ملعب كرة قدم كبيراً إلى مستشفى ميداني كامل التجهيزات. هذا هو الوضع في ووهان بشكل عام».
ويضيف في ما خص الإشاعات، أن «منها السلبي ومنها الإيجابي، لكن كليهما مضرّ. فقد انتشرت إشاعات تقول إن الناس يموتون، وإن الشخص يكون واقفا في الطريق ثم فجأة يسقط جثة هامدة، وهي ليست صحيحة إطلاقاً، لأنه ليس من أعراض الفيروس أن يسقط المصاب به ويموت، وإذا حدَث وسقط شخص ما على الطريق فبالتأكيد أنه لسبب آخَر غير إصابته بالفيروس. وقد تم تحديد أعراض كورونا بأن يسعل المرء، أو ترتفع درجة حرارته. وفي الحالتين لا يقع أرضاً. وهناك فيديوهات مُسَرَّبة مقتبسة من أفلام خيالية، حول إغلاق الطرق وموت الناس وتحول الحواضر إلى مدن أشباح أو ما شاكل، وهم ينشرون أرقاماً ضخمة، كلها بعيدة عن الحقيقة وغير صحيحة. لكن لا غرابة في ذلك، فالعالم مهيّأ لاستقبال مثل هذه الإشاعات من استهلاك أفلام الرعب والزومبي».
ويتابع: «هناك أيضاً إشاعات يعتقد مروّجوها أنها إيجابية وهي ليست كذلك، كالقول مثلاً إنه تم اكتشاف علاج يقضي على الفيروس، أو أنه تم ضبط أشياء بفناء القنصلية الأميركية في ووهان. وهذا الكلام ليس صحيحاً إطلاقاً».
ويوضح أنه «علمياً لم يحدد العلماء بعد أسباب الفيروس. وما هو مؤكد حتى اليوم إن الفيروس لا يعيش إلا وسط خلية حية، لا على ورق كرتون أو كيس، ولا يمكنه أن ينتقل إلا في حالة إمساك الواحد بشيء مباشرة بعد لمْسه من طرف مصاب. ونحن الطلاب نلتزم بالتعليمات التي تصلنا من الجامعة. إذ لا صلة لنا مباشرة مع السلطات الصينية. وتتم مراسلتنا بالبريد الإلكتروني لاتباع الإجراءات اللازمة والضرورية».
ويضيف: «كان القصد منذ البداية نشر الخوف والرعب بين القاطنين في ووهان وفي الصين والعالم أجمع. وهذا أمر اشتغل عليه الأميركيون، تحت حجة أن الوضع خطير. هي إشاعات مضرة كثيرة، لكن ضررها لا يطول كثيراً السكان داخل الصين، كون الصينيين يقعون خارج دائرة تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية المعروفة، مثل «فيسبوك» و«تويتر»، لأن للصين وسائل تواصل خاصة، مثل بايدو ووي تشات وويبو، وهكذا ينعكس الضرر المباشر على بقية العالم خارج الصين أساساً».
ويختم أدهم كلامه لـ«الراي» بالقول: «بعد تمديد العطلة من جديد، أعتقد أن الوضع سيستمرّ على ما هو لنحو عشرة أيام مقبلة. لقد رفعت الصين شعار ومبدأ أن الإنسان أهمّ من الاقتصاد، ولذلك في ما يتعلّق بي، قررتُ ألا أعود حالياً إلى لبنان، ولا أرى ضرورة لذلك. فمنذ خمس سنوات وأنا هنا، عشتُ وأمضيتُ أياماً جميلة وحلوة مع هؤلاء الناس، ولذا أجد شيئاً رائعاً أن أبقى وأقف معهم في محنتهم، خصوصاً أن إمكانات الصمود والبقاء متوافرة والوضع تحت السيطرة كما تؤكد السلطات».

شاهد أيضاً

مذا يحدث لجسمك إن نمت أقل من 6 ساعات نوم في اليلة؟

تقول العديد من الدراسات إن البالغين يجب أن يحصلوا على سبع إلى تسع ساعات نوم …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.