انقسم المشهد على الأرض في الولايات المتحدة إلى مشهد أول سلمي، يتظاهر فيه محتجون على مقتل الأسود جورج فلويد على أيدي الشرطي الأبيض ديريك شوفين، ويطالبون بإصلاحات تنهي عنف الشرطة بحق المواطنين، خصوصاً الأقليات منهم. وينتهي المشهد الأول مع بدء موعد الحظر الليلي، ويليه فوراً المشهد الثاني الذي يقوم خلاله مثيرو الشغب بتكسير واجهات المحلات التجارية وسرقة ما تيسر من بضائعها.
المشهد الأول يتمتع بتأييد، لا بين غالبية الأميركيين من الحزبين فحسب، بل بين دوائر الشرطة نفسها، إذ شهد بعض مواقع التظاهرات قيام أفراد الشرطة بالركوع على ركبتهم اليمنى، تيمناً بالمتظاهرين الذين كانوا يركعون، فانتشرت صور التضامن بين المتظاهرين السلميين والشرطة، كالنار في الهشيم على وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الديموقراطيون يعرفون أن مصلحتهم السياسية تقضي بالانحياز لمصلحة المتظاهرين السلميين. وفي هذا السياق، أعلن نائب الرئيس السابق والمرشح الديموقراطي للرئاسة جو بايدن مشاركته في مأتم فلويد.
في هذه الأثناء، يلعب الرئيس السابق باراك أوباما دوراً قيادياً، خصوصاً بين الأميركيين من أصل أفريقي من أقرانه، ولكن بعيداً عن الأضواء، ويحضهم على نبذ العنف، والالتزام بالتظاهر السلمي والعمل السياسي، وخصوصاً الاقتراع في الانتخابات المقبلة. وسبق لأوباما أن أجاب عن عدد من الأسئلة حول الأوضاع والحلول بالقول: «صوتوا»!
وفي تغريدة، كتب أوباما «دعونا نعالج الأمور بطريقة أخرى… دعونا نتوقف عن التفكير بأن صوتنا في الانتخابات لا يهم، ودعونا نقترع، لا للرئيس المقبل فحسب، بل لكل المسؤولين المحليين كذلك».
ودعا الأميركيين إلى تثقيف أنفسهم ومعرفة لمن يصوتون، و«هذه هي الطريقة التي سنضرب بها».
وفي مقال على موقع «ميديوم»، قال أوباما إن «المسؤولين المنتخبين الأكثر أهمية في إصلاح أقسام الشرطة ونظام العدالة الجنائية يعملون على مستوى الولاية والمستوى المحلي».
وأضاف: «إذا أردنا إحداث تغيير حقيقي، فإن الخيار ليس بين الاحتجاج في الشارع والسياسة في صناديق الانتخاب، بل علينا القيام بالأمرين معاً، وعلينا أن نتحرك من أجل رفع مستوى الوعي، وعلينا أن ننظم أنفسنا ونصوت للتأكد من أننا ننتخب مرشحين يعملون على الإصلاح».
وتابع أوباما: «أنا أدرك أن هذه الأشهر القليلة الماضية كانت صعبة ومثيرة للحزن بسبب الخوف من الوباء، والقلق، والصعوبات المعيشية، فضلاً عن مأساة التحيز وعدم المساواة اللذين لا يزالان يشكلان جزءاً كبيراً من الحياة الأميركية».
وختم الرئيس السابق بالقول إن «النشاط المتزايد للشباب في الأسابيع الأخيرة، من كل إثنية ومن كل مكان، يجعلني متفائلاً. وإذا استطعنا، في المستقبل، توجيه غضبنا المبرر إلى عمل سلمي ومستدام وفعال، فإن هذه اللحظة قد تكون نقطة تحول حقيقية في رحلة بلدنا الطويلة للارتقاء إلى أعلى المثل العليا لدينا».
تلك كانت نصائح أوباما الذي شق طريقه إلى موقع الرئاسة من عمله في تنظيم صفوف الناس وتسييسها.
أما الرئيس دونالد ترامب، الذي شق طريقه إلى الرئاسة من عالم الدعاية وبرامج «تلفزيون الواقع»، فلا تنظيم ولا سياسة لديه، بل الإفادة من الأوضاع لاقتناص صورة وتسويقها، وهو ما دفعه إلى إصدار أوامر بإخلاء حديقة لافاييت العامة المقابلة للبيت الأبيض من المتظاهرين، ثم عبر الحديقة ليصل إلى كنيسة القديس يوحنا، التي سبق لمشاغبين في يوم سابق أن أضرموا ناراً في طابقها السفلي.
ولم يدخل الرئيس الأميركي، الكنيسة، بل وقف أمامها، وحمل الكتاب المقدس، ودعا الصحافيين إلى التقاط صور له.
على أن ترامب، الذي كان يحاول إرسال رسائل إلى قاعدته من اليمين المسيحي المحافظ بمزجه مظاهر القوة بالإنجيل، على ما يحلو لبعض المسيحيين الإنجيليين الأميركيين فعله، يبدو أنه لم يفكر ملياً بشكل صورته، فراح يلوّح بالإنجيل بيده، وهو ما أثار حفيظة شريحة واسعة من المسيحيين، بمن فيهم القس المسؤول عن الكنيسة، وعدد من أعضاء الكونغرس من الجمهوريين، مثل السناتور عن ولاية نبراسكا، بن ساس، الذي استنكر صورة الرئيس «التي تعامل كلمة الله على أنها دعاية سياسية».
واصطف مئات المحتجين قرب النصب المقام للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني، حاملين لافتات مكتوب عليها«كنيستنا ليست مكانا لالتقاط الصور».
وترامب، الجمهوري الذي يعتقد أن مصلحته السياسية تقضي بالانحياز ضد مثيري الشغب وتهديدهم بالرصاص والكلاب الشرسة والجيش، يسعى للظهور بمظهر «الرئيس القوي» القادر على فرض القانون وحفظ الأمن…
وفي هذا السياق، واصل تصريحاته العنترية، ودعا، في تغريدة، مدينة نيويورك إلى التصرف بسرعة ونشر الحرس الوطني. وغمز من قناة حاكم ولاية نيويورك الديموقراطي اندرو كومو، وحاول تحميله مسؤولية ارتفاع عدد الوفيات الناجمة عن انتشار وباء كورونا المستجد في ولايته، قائلاً: «لا ترتكب نفس الخطأ الرهيب والقاتل الذي ارتكبته مع دور العجزة (التي عانت من انتشار الوباء في صفوف ساكنيها)».
وفي تغريدة ثانية، حاول ترامب تصوير منافسه بايدن بـ «الضعيف»، وتصوير نفسه على أنه «قوي»، وقال: «جو النائم يعمل في السياسة منذ 40 عاما، ولم يفعل شيئاً… الآن يتظاهر بأن لديه الإجابات، فيما هو لا يعرف حتى الأسئلة».
وأضاف: «لن يتغلب ضعف (بايدن) على الأناركيين أو اللصوص أو البلطجية، وجو كان ضعيفاً سياسياً طوال حياته». وختم التغريدة: «القانون والنظام!».
وفي وقت اختفى الحديث عن وباء كورونا، قال ترامب، في تغريدة ثالثة، إن «اللقاحات تأتي بشكل جيد حقاً… والعلاج كذلك يتحرك بأسرع مما كان نتوقع، وهذه أخبار جيدة في المستقبل (من نواحٍ عديدة)!».
ويخشى الخبراء الأميركيون من أن تؤدي التظاهرات الحاشدة لانتشار وباء «كوفيد – 19» بشكل واسع بين الناس.
الأحداث المتسارعة وطريقة ترامب في معالجتها، أثارت حفيظة عدد واسع من رجال الدين والسياسيين الجمهوريين، وكان لافتاً خروج الرئيس السابق جورج بوش الابن عن صمته، وأصدر بياناً علّق فيه على التطورات، في تعليق أظهر عمق الانقسام داخل الحزب الجمهوري.
«الاختناق الوحشي»
وقال إنه «منزعج» من«الاختناق الوحشي» لفلويد ومن «الظلم والخوف الذي يخنق بلادنا».
وأضاف بوش الابن، مع ذلك، «قاومنا الرغبة في التحدث، لأنه ليس الوقت المناسب لنا لإلقاء محاضرات، بل حان الوقت لنستمع، وحان الوقت لمراجعة إخفاقاتنا المأسوية».
ومع أنّ بوش لم يأت في بيانه على ذكر ترامب، إلا أنّه شدّد على ضرورة الاستماع إلى «أصوات أولئك الذين يعانون».
وأكّد أنّ «أبطال أميركا – من فريدريك دوغلاس إلى هارييت توبمان أو أبراهام لينكولن أو مارتن لوثر كينغ جونيور – هم أبطال وحدة».
«ساحة معركة»
واتّهم بايدن، من ناحيته (أ ف ب)، ترامب، بتحويل الولايات المتّحدة إلى «ساحة معركة تقسّمها مشاعر الاستياء القديمة ومشاعر الخوف الحديثة»، بقصد الفوز بولاية ثانية، واعداً بفعل كل ما بوسعه من أجل «معالجة الجروح العنصرية».
وقال نائب الرئيس السابق في خطاب في فيلادلفيا، إن مقتل فلويد، كان بمثابة «صدمة لبلادنا. لنا جميعاً».
وهذه المرة الأولى منذ منتضف مارس التي يخاطر فيها بايدن (77 عاماً) بالسفر إلى مكان خارج ولايته ديلاوير التي عزل نفسه فيها بسبب جائحة «كوفيد – 19».
وندّد بايدن، باستخدام الشرطة القوة لتفريق «متظاهرين سلميين» أمام البيت الأبيض من أجل السماح لترامب بالانتقال إلى كنيسة مجاورة سيراً بقصد التقاط صورة أمامها لا غير.