تحل اليوم الذكرى التاسعة والعشرون لرحيل الشيخ عبدالله المبارك، أصغر وآخر أنجال الشيخ مبارك الكبير.. وأطولهم حياة، ففي يوم 15 يونيو 1991 طويت صفحة من صفحات التاريخ الكويتي المشرقة، التي شكلت البناء الحقيقي للتاريخ الكويتي الحديث والنهضة الهائلة في مفاصل الدولة كافة… لما كان يملكه ذلك الرجل من طاقة هائلة على العمل وامتداد مذهل من العلاقات… ووقوفه على رأس مؤسسات الدولة.
فقد شهدت الكويت في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين وضع الدعامات التنظيمية الأولى للنهوض بالبلاد على مختلف الصعد، فكانت من أخصب الفترات التي هيأت لانطلاق النهضة الثقافية والتنظيمية الشاملة.
وفي جنبات كتاب «صقر الخليج» للشيخة الدكتورة سعاد الصباح، مرتكزات كثيرة وعديدة وضعها هذا الرجل شكّلت مفاصل مستقبل دولة الكويت، الذي بات حاضراً يعيشه المواطن والمقيم والزائر؛ فأنت تدخل أو تخرج من الكويت عبر مطار هو من أشرف على تأسيسه وتطويره وتدريب طياريه، وتتعامل بجوازات سفر هو أول من أصدرها، نعرض بعضاً منها.
لن نبحث عن السّر، ولن نجتهد في فك مغاليق هذا اللغز، كما لن نتحدث عن كل إنجازات الرجل، بل سنحاول تلمّس رياداته في المجال: المعرفي، الثقافي، التنويري فقط.
النادي الثقافي
استشعر الشيخ عبدالله المبارك أن الحاجة باتت ملحة لإنشاء كيان يحتضن الأدباء والمثقفين الكويتيين، الذين أخذ عددهم بالتزايد وطموحاتهم بالاتساع. ولمس ضرورة إيجاد متنفس يتيح لهم التعبير عن آرائهم ومواهبهم. وساعده على ذلك ازدهار الوضع الاقتصادي ونمو الوعي الاجتماعي.
وتقدم عدد من المثقفين بكتاب إليه طالبين الموافقة على تأسيس نادٍ باسم «النادي الثقافي القومي» وأن يكون هو رئيساً فخرياً له، ووافق على طلبهم، وأشاد بمبادرتهم، بل شجعهم على المضي قدماً.
كما آمن بأن الرياضة لا تقل أهمية عن التعليم والقراءة في صقل شخصية الجيل الشاب.
التعليم
أولى الشيخ عبدالله المبارك رحمه الله التعليم أهمية خاصة خلال رئاسته مجلس المعارف (1947-1960)، «فقد نظر إلى التعليم باعتباره أداة تأهيل لجيل جديد من الكويتيين لإدارة مرافق الدولة بعد الاستقلال ولقيادة جهود التنمية فيها. لذلك، فقد اهتم بالتعليم على كافة مراحله وخصوصاً تعليم البنات، وبأنشطة التربية الاجتماعية والرياضة المدرسية… كما شجّع إرسال البعثات العلمية إلى الخارج».
وكرئيس وعضو المجلس الأعلى للمعارف، لم يكتفِ بالدعم الحكومي الذي وفّره تدفق النفط في تلك الآونة، بل كان يساهم في ذلك من حر ماله. ويسجل له التاريخ أنه تبرع في العام 1959 بنحو ثلاثة آلاف متر مربع من أرضه الخاصة قرب قصر دسمان لإنشاء مبنى الصحة المدرسية. وقفز عدد المدارس من 19 مدرسة في سنة 1948 إلى 65 مدرسة في العام 1956.
وأنشأت دائرة المعارف عدداً من المعاهد الخاصة بذوي الاحتياجات، فافتتحت معهد النور للبنين في العام الدراسي 1955 – 1956 وتبعه معهد النور للبنات، ومعهد التربية العقلية.
ولم يألُ الشيخ عبدالله جهداً في حضّ المتعلمين على السفر في بعثات دراسية إلى الخارج، وكان يحرص على زيارتهم والوقوف على أوضاعهم واحتياجاتهم كلما سافر إلى مصر أو لبنان أو فرنسا أو بريطانيا.
التعليم الجامعي
إثر استقرار التعليم وتواصله في مختلف المراحل، كان من الطبيعي أن يطرح الشيخ موضوع الإعداد لإنشاء جامعة تتلقف الخريجين في مرحلة الدراسة الثانوية، وتمنع انقطاعهم أو تسربهم خارج المجال التعليمي.
استقدم مجلس المعارف في العام 1960 لجنة خبراء «تألفت من مدير جامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية الدكتور سليمان حزين، والأستاذ بالجامعة الأمريكية ببيروت الدكتور قسطنطين زريق، والأستاذ بجامعة كمبردج الدكتور إيغور جينجز. وفي عام 1961 أنشئ مجلس موقت للجامعة بغية العمل على افتتاح الدراسة في سبتمبر من عام 1964 بكليتين إحداهما للآداب، والأخرى للعلوم.
تعليم القبائل
وبصفته المسؤول الأول عن شؤون القبائل ومتابعة قضاياهم وهمومهم وأعطياتهم والفصل في نزاعاتهم ممن استوطنوا الكويت أو ممن قطنوا حولها. أولى تعليم القبائل أولوية في عمله شجعهم على الدخول في عصر التنوير وإلحاق أبنائهم بالتعليم النظامي… وإشاعة العلم بين القبائل، خاصة وأنه قد نجح نجاحاً باهراً في كسب ود القبائل ونيل احترامهم لما في شخصيته من هيبة وحزم وقوة وكرم.
حماة الوطن
لطالما حلم الشيخ المبارك بتكوين قوة منيعة قادرة على الذود عن حياض الوطن، فمنذ عمله في يفاعته في قوة الحدود عبر مجاهل الصحراء الكويتية، وتسلّمه بعد ذلك منصب نائب رئيس دائرة الأمن العام، أيقن أنه لا بد من تشكيل قوة ضاربة تحمي البلاد من هجمات المهربين التي خبرها وتصدّى لها مراراً، ناهيك عن خطر الأطماع التي ما فتئت تطل برأسها عبر الحدود.
وما إن واتته الفرصة في رئاسة دائرة الأمن العام حتى شرع، وبكل ما أوتي من عزم، في تحقيق حلمه، الذي سرعان ما تحول إلى حقيقة على أرض الواقع.
وعن ذلك قال العقيد طيار متقاعد سلطان عبدالرحمن الكندري: «تأسس الجيش الكويتي أواخر الأربعينات، وكان المؤسس المرحوم الشيخ عبدالله المبارك الصباح… ذلك الرجل الذي اهتم ورعى الجيش وقدم وسهل له المهمات، وأحضر للجيش كل جديد من المعدات… واهتمت قيادة الجيش بإرسال الأفراد إلى الخارج للدراسة، خصوصا الحاصلين على مؤهلات علمية، بعضهم إلى بغداد ومصر».
الطيران
في العام 1953 أنشأ الشبخ عبدالله المبارك وافتتح نادي الكويت للطيران ومدرسة الطيران، وأمر بضرورة تحديث وتطوير مطار الكويت (مطار النقرة)، الذي لم يكن مؤهلاً وقتها إلا لاستقبال الطائرات المروحية، وعدد محدود جداً من طائرات الركاب، ونهاراً حصراً.
وبالتزامن مع ذلك بوشر بتدريب عدد من الكويتيين على الطيران في النادي، وإرسالهم بعد اجتياز دورات إلى بريطانيا لاستكمال التدريبات. وبذلك تمكّن من تشكيل نواة (الخطوط الجوية الكويتية)، وسلاح الطيران الكويتي فيما بعد. واعترافاً من بريطانيا بنجاحه في إدارة نادي طيران الكويت منحته وسام (أجنحة الشرف) في حفل كبير أقيم في الكويت.
ففي السادس من مارس لعام 1954 احتفلت «الخطوط الجوية الكويتيــة الوطنية المحدودة» بوصــول أولى طائراتهــا التــي أطلقت عليها اسم (كاظمة).
وفي العشرين من ديسمبر من سنة 1954 رعى الشيخ عبدالله حفلاً كبيراً احتفاءً بتسليم شهادات التخرج من مدرسة الطيران لثمانية طيارين كويتيين.
وأعلن بصفته القائم بأعمال الحاكم- في الأول مـن أكتوبر 1956، إنشاء دائرة الطيران المدني. وعمد إلى إنشاء مطار جديد، لضعف إمكانيات وقدرات القديم، واستطاع مع اعتراضات السلطات البريطانية، أن يحقق مراده.
رابطة العروبة
عند استقباله وفداً من الصحافيين اللبنانيين العام 1952 أكّد لهم أنّ الكويت وطن اللبنانيين الثاني، ولبنان عزيز على قلوبنا، نحبّه ونفاخر به. ولا فرق عندنا بين عراقي ومصري أو كويتي ولبناني، فكلّنا إخوان تربطنا رابطة العروبة.
أول كنيسة
في حديـث له مع مجلة المصور المصرية في 15 أبريل 1960 قال إنه بالرغـم من عدم وجود مواطن نـصراني كويتي فقد سمحنا بإنشاء كنيسة، حتى يتوفر للمقيمين النصارى من الأجانب والعرب القيام بطقوسهم. وساهمت الحكومة في إنشاء الكنيسة.
سعاد الصباح: صَنَعني فكرياً
لما كان حبه للعلم والثقافة والانفتاح الفكري وتقدير الكلمة وأصحابها صفة أصيلة من صفاته الشخصية، فقد عاش ذلك واقعياً مع أهل بيته، قبل أن يعيشه خارجه.
هذا ما سجلته الدكتورة سعاد الصباح في كتابها (رسائل من الزمن الجميل) إذ قالت: أهم ما في عبدالله المبارك أنه كان دائماً مع العصر، ومع الحداثة، ومع الجديد، وهذه الحداثة في فكره تركت بصماتها عليَّ وعلى أولاده. وبالنسبة لي، لم يُخبئّني عبدالله المبارك خلف الستائر، ولم يحبسني في قارورة، وإنما أدخلني إلى مجلسه، وقدمني إلى زواره، وشجعني على المشاركة في كل الحوارات السياسية التي كانت تدور في ديوانيته.
ومن أهم أفضال عبدالله المبارك عليّ، أنه (صَنَعني) فكرياً وثقافياً، حين فتح أمامي الضوء الأخضر لأواصل تعليمي، وأستكمل معارفي، فدخلت جامعة القاهرة، وحصلت على بكالوريوس في الاقتصاد. وعندما عبّرت له عن رغبتي في التحضير لشهادة الماجستير والدكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية، لم يكسر أحلامي، وإنما قرر أن نسافر جميعاً إلى لندن لنكون معاً.
مناصب تقلّدها
تسلم الشيخ الشاب عبدالله المبارك (1914-1991) مناصب قيادية مفصلية، مكّنته من لعب دور محوري، في رسم السياسات العامة للبلاد.
• رئاسة دائرة الأمن العام في العام 1942، بالإضافة إلى مسؤوليته عن شؤون القبائل، ما وفّر له العمل والإشراف على تأسيس الجيش الكويتي، الذي أصبح قائداً عاماً له في العام 1954.
• ترأس في العام 1947 جلسات مجلس المعارف لسنوات تواصلت حتى العام 1960، فأشرف على عملية التوسع الهائل في التعليم، وعلى إرسال البعثات التعليمية إلى مصر ولبنان وبريطانيا وغيرها.
• في العام 1951 أشرف على إنشاء ميناء الأحمدي.
• دعم في العام 1952 إنشاء النادي الثقافي القومي كتجمع للمثقفين والأدباء، وتولّى رئاسته الفخرية.
• منصب نائب الحاكم لفترات عديدة.
• أسس إذاعة الكويت وتولى رئاستها من العام 1951 حتى العام 1960.
• كان له الفضل في العام 1953 تأسيس نادٍ للطيران، النواة الأولى للقوة الجوية الكويتية.
• اختير في العام 1958 عضواً في المجلس الأعلى الذي شكّله الشيخ عبدالله السالم، لوضع السياســة العامة للبلاد والإشراف على تنفيذها.
• تسلم مهمة إدارة شؤون الجوازات والسفر والجنسية.
قصة ثانوية الشويخ
تعود قصة المدرسة إلى سنة 1950 حين طرح الشيخ عبدالله السالم على أعضاء مجلس المعارف فكرة إنشاء مدرسة ثانوية عصرية لاستيعاب أعداد الطلبة الآخذة بالتزايد، أوكلت مهمة البناء والتجهيز لرئيس مجلس المعارف الشيخ عبدالله المبارك، الذي وجد فيها فرصة لتحقيق جزء من طموحاته. وما لبث أن بدأ الشيخ يعد العدة لمدرسة أشبه ما تكون بالخيالية وفق مقاسات ذلك الوقت. رسم في مخيلته المزايا والمواصفات، وسارع في استقدام أفضل المصممين والمخططين، وأمهر شركات البناء. وعلى مساحة بلغت نحو 2.5 مليون متر مربع، بدأت تتكشف معالم تحفة معمارية وصرح تعليمي غير مسبوق. وبعد أكثر من عامين انقلب الحلم إلى حقيقة، فإذا بالمدرسة الثانوية المنتظرة تتحول إلى أشبه ما تكون بالجامعة!
أزمة السويس
من الأمثلة على تكاتفه مع الدول العربية ضد كل ما يتهددها، وقوفه مع مصر خلال أزمة السويس سنة 1956 والعدوان الثلاثي عليها.
عند ذلك جمع الشيخ عبدالله قادة التيارات القومية وأخبرهم بأن «دعم مصر لا يكون بتفجير الأنابيب أو إلقاء القنابل، ولكن بالتبرع لها بالمال أو بالنفس. أمّا الذين يريدون التبرع بالمال، فباب التبرع مفتوح، وأنا أول المتبرعين. والذين يريدون التبرع بالنفس والتطوع، فإن الطائرات موجودة، والسلاح موجود، وأنا أضمن وصولكم إلى مصر».