«قانون قيصر»: بعد سورية كيف سيؤثر على العراق؟

يبدو أن «قانون قيصر» – قانون العقوبات الأميركية التي تهدف إلى «ملاحقة الأفراد والجماعات والشركات والدول التي تتعامل مع حكومة دمشق» – موجّه ضد سورية ولكنه في الواقع يرمي إلى اصطياد العديد من الطيور بحجر واحد. فهو يهدف إلى إلحاق الضرر بإيران وسورية والعراق ولبنان، المتّحدين تحت جبهة واحدة: جبهة «محور المقاومة».
وتهدف العقوبات الأوروبية – الأميركية على سورية، بموجب «قانون قيصر»، إلى قطع العلاقة القائمة بين طهران ولبنان عبر العراق وسورية. إن القوة المتزايدة لـ«محور المقاومة» بعد انتصاراته في سورية (من خلال منْع تغيير النظام) وفي العراق (من خلال استعادة الأراضي التي احتلها «داعش») لا يمكن السماح لها بأن تصبح نموذجاً لدول وحركات أخرى لأنها تمثل تهديداً لكل من إسرائيل ولسيطرة أميركا على العالم.
وتشتهر إسرائيل بتبنيها سياسة «استراتيجية الضربات الوقائية»، ومهاجمة وتدمير التهديدات المستقبلية المحتملة في محيطها الأمني الذي يغطي البحر الأبيض المتوسط وحتى باب المندب.
وتعود هذه السياسة المتبعة إلى تاريخ احتلال فلسطين العام 1947. ومع ذلك، أصبحت إسرائيل أكثر من أي وقت لا غنى عنها للولايات المتحدة بسبب عودة روسيا إلى الساحة الدولية خصوصاً إلى الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.
وبالتالي فإن إعادة التموْضع الاستراتيجي الروسي في الشرق الأوسط، التي أثارتها الحرب الأميركية على سورية، تعيد إحياء الحرب الباردة للإدارة الأميركية وتجعل إسرائيل لا غنى عنها «كدولة رائدة» في مواجهة نفوذ موسكو المتزايد في لبنان وسورية والعراق.
وتعتبر واشنطن هذه الدول الثلاث منطقة أمنية استراتيجية لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الآن بعدما أصبحت روسيا في المدار نفسه.
وكانت الولايات المتحدة اعتقدت – من خلال تمركزها على الحدود السورية – العراقية في التنف حيث منعت الجيش السوري من الاقتراب من قاعدته وابقائه على مسافة 55 كيلومتراً أمنياً – أنها يمكن أن تغلق طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت. إلا أن اللواء قاسم سليماني تحرّك بسرعة وحرّر الطريق الذي يربط دير الزور مع القائم وهو معبر آخَر بين سورية والعراق، فَقلَب الخطة الأميركية التي تهدف إلى شل الاقتصاد السوري رأساً على عقب.
تمت الموافقة على «قانون قيصر للحماية المدنية السورية لعام 2016» من إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في يوليو 2016. وقد تمت إعاقته لأنه اعتُبر انه يؤثر سلباً على المفاوضات الأميركية – الروسية بشأن سورية.
ومع ذلك، فإن صقور إدارة الرئيس دونالد ترامب أرادوا تفعيل القانون لمحاولة إغلاق جميع الأبواب على روسيا والصين وسورية و«محور المقاومة». ولكن إذا حاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الالتزام بالعقوبات الأميركية، فسيضع نفسه في وضع داخلي حرج ويصبح هدفاً للعديد من الجماعات العراقية القوية، بما في ذلك إيران.
وبالتالي، فإن فرصة الكاظمي الوحيدة هي محاولة الحفاظ على التوازن بين حليفه الاستراتيجي الولايات المتحدة وعلاقة الجوار الحتمية مع إيران.
وتحت عنوان «دعم العراق في أزمته المالية الحرجة» وتغذية البلاد بمليارات الدولارات، بدأت الأصوات المؤيّدة للولايات المتحدة في العراق بالإعلان عن ضرورة نشر قوات مكافحة الإرهاب على طول الحدود السورية – العراقية.
ويزعم هؤلاء أنه من المهمّ إبقاء مختلف المنظمات والجماعات العراقية الموالية لإيران بعيداً عن الحدود السورية – العراقية. ولم يذكر أحد على الإطلاق وجود مئات الآلاف من قوات البيشمركة الكردية في كردستان، الموالية للزعيم الكردي مسعود بارزاني، الذين يتقاضون الرواتب من الحكومة المركزية، الا أنهم معادون لبغداد – لكن ليس للولايات المتحدة.
وفي الواقع، لقد حارب البيشمركة وقتل ضباطاً عراقيين في كركوك عندما رفض الأكراد الانسحاب من المدينة وتسليم حقول النفط الرئيسية اثناء تحرير شمال العراق من «داعش».
وكما في العراق كذلك في لبنان، حيث يضغط الأميركيون من أجل نشر قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) على طول الحدود اللبنانية – السورية، بناءً على طلب إسرائيل، لمنْع تدفق الصواريخ الدقيقة والأسلحة الحديثة إلى «حزب الله».
إن الولايات المتحدة، في هذا الوقت، لا تعمل فقط لمصلحة إسرائيل، ولكن أيضاً لمصالحها الخاصة، من خلال رفْض الانسحاب الفوري من العراق الذي يمثّل مصدراً مهماً للطاقة في الشرق الأوسط.
وقد بدأ الحوار الاستراتيجي الأميركي – العراقي في 11 يونيو الجاري، لكن من غير المتوقع أن يؤدي إلى أي نتيجة مهمة في الأشهر المقبلة رغم الزيارة المتوقعة من الكاظمي لواشنطن الشهر المقبل. وستواصل الولايات المتحدة تجاهل القرار البرلماني الملزم والذي أُقر في يناير 2020 لفرض انسحاب كامل لجميع القوات الأجنبية (ولا سيما الولايات المتحدة) من العراق.
وعندما اجتمع البرلمان العراقي للتصويت على الانسحاب الأميركي، حاول رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي أن يصف التجمّع بأنه «تصويت طائفي». وقال مباشرة على الهواء ان «هذا قرار شيعي وليس قراراً وطنياً».
ويبدو أن الدستور العراقي مرن ويمكن أن يغير الديموقراطية إلى الإجماع الوطني، اعتماداً على مزاج السياسيين. وهذا هو بالضبط الفخ الطائفي (وليس الديموقراطي) الذي شلّ لبنان لعقود.
ليس هناك شك في أن جزءاً من الشيعة والسنّة والأكراد يعارض الانسحاب الأميركي من العراق. ومع ذلك، يطالب العديد من الشيعة والسنّة والأكراد والتركمان برحيل الولايات المتحدة بالكامل.
وقد صوّتت غالبية 172 صوتاً لمصلحة مغادرة الولايات المتحدة، ما أجبر البرلمان على اتخاذ قرار ملزم. وقد قتلت الولايات المتحدة العديد من أفراد الأمن في العام الماضي، بما في ذلك من الحشد الشعبي، والجيش وضباط الشرطة الاتحادية. ودمّرت مطار كربلاء المدني وسمحت لإسرائيل بقصف العراق.
وقال رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي: «أبلغتنا الولايات المتحدة أن إسرائيل قامت بعدد من عمليات القصف لمواقع (الحشد) في العراق في صيف 2019».
لقد اتّهمت بغداد، الولايات المتحدة بانتهاك القانون الدولي وكل الاتفاقات التي تحكم وجودها في بلاد الرافدين، عندما اغتالت سليماني ونائب القائد العام للحشد أبومهدي المهندس في مطار بغداد. وتهدف واشنطن إلى شلّ «الحشد» أو تذويبه داخل وزارة الدفاع من دون معالجة مسألة «البيشمركة» وتبعيّتها للقيادة والسيطرة الكردية والتي تعتبر الذراع الأميركية في كردستان العراق. وهذا يعني أن هناك في العراق قوى موالية للولايات المتحدة، وأخرى موالية لبغداد، وأخرى موالية للمرجعية في النجف، وأخرى موالية لإيران.
وفي الشهر الأول من توليه السلطة، بدأ رئيس الوزراء الكاظمي مهماته بزيارة مقر الحشد، مرتدياً زيه، ومعلناً أنه «قوة الوطن»، ووَعَد بحماية هذه القوات، واضعاً حداً لجميع التكهنات السلبية بشأن مصير الحشد.
وقال: «الحشد شرف للعراق وأنا فخور بأنني أرتدي هذا الزي الرسمي».
والآن، تعهّدت إيران – وفق مصادر إيرانية خاصة قامت بزيارة بغداد أخيراً – بعدم التدخل والسماح للعراق بتدبر أزمته وإدارة علاقاته الأميركية والإيرانية بطريقته الخاصة. وقد طلبت من جميع الأحزاب السياسية التعاون مع رئيس الوزراء لإنجاح ولايته في هذه اللحظة الدقيقة والتعاوُن للوصول إلى الأهداف المرجوة في السعي لانتخابات برلمانية جديدة وانسحاب القوات الأجنبية.
وقد أعلنت «عصائب أهل الحق»، وهي منظمة عراقية موالية لإيران حاربت قوات الاحتلال الأميركية (ولديها 13 نائباً)، إغلاق مكاتبها في جنوب العراق ووسطه. وهذا يتيح للكاظمي مساحة للتنفس وإظهار أنه يستطيع إجراء تغييرات دون دعم أميركي وأن شؤونه الداخلية لا تحتاج للولايات المتحدة.
كذلك أوقفت المرجعية في النجف قرارها بفصل الألوية الأربعة عن الحشد – الممولة من قبل آية الله العظمى السيد علي السيستاني والمعروفة باسم «حشد العتبات» (العتبات ترمز إلى الأضرحة المقدّسة المنتشرة في كربلاء والنجف وبغداد وسامراء تحت إشراف مرجعية) – وضمها الى وزارة الدفاع.
وقالت مصادر في الدائرة القريبة من السيستاني: «أراد السيد السيستاني أن يهز العصا في وجه الحشد عندما أعلن نيته دمج الألوية الأربعة في وزارة الدفاع. وهذه ضربة تحت الحزام. لا يمكن للحشد الشعبي أن يتصرّف من دون استشارة ويجب إعطاء القيادة الرئيسية للضباط المحترفين».
في الواقع، تم اقتراح عبدالعزيز المحمداوي، المعروف أيضاً باسم أبو فدك، كبديل للمهندس. وقد رفضت النجف هذا الاقتراح بشكل غير رسمي. إن المرجعية تودّ أن ترى فالح الفياض يقود وزارة الأمن القومي وليس الحشد. وكذلك من الممكن إعطاء قيادة الحشد لضابط محترف مثل اللواء عبدالغني الأسدي، الرئيس السابق للوحدة الذهبية لمكافحة الإرهاب.
أما حاكم الزاملي، وهو مرشحٌ طرح اسمه لقيادة «الحشد»، لا يتمتع بالصفة التي تتمناها المرجعية أبداً. وقد تم تعيين أبو فدك رئيساً لأركان الحشد، مسؤولاً عن العمليات البرية، وهو المنصب الذي كان يشغله من قبل.
وتعتقد أوساط قريبة من المرجعية أن الحشد «يجب أن يبقى، وهو ضروري لمواجهة (داعش) ولكن أيضاً لإيجاد التوازن في وجه البيشمركة».
وبحسب المصادر، فإن المرجعية «لا تريد سيطرة الشرق ولا الغرب، بل ان مصلحة العراق تأتي أولاً ولكن ذلك ينطبق على كل القوى وليس فقط الحشد الشعبي. ويجب أن تكون جميع القوات تحت قيادة رئيس الوزراء وكذلك يجب أن ينتهي النفوذ الإيراني والأميركي. إلا انه ليس لدينا خريطة طريق نقدّمها للسياسيين».
مما لا شك فيه أن الأحزاب السياسية الشيعية مثل الأحزاب التي يقودها هادي العامري، ومقتدى الصدر، ونوري المالكي، وحيدر العبادي، والسيد عمار الحكيم، والشيخ قيس الخزعلي، لديها مقاعد في البرلمان، وبالتالي فهي أقوى من المرجعية عندما يتعلق الأمر بالتصويت على أي قرار داخل البرلمان. أما النجف فهي محدودة التأثير في نهاية الأمر.
تحتفظ الولايات المتحدة بالنقد المالي الذي يحتاجه العراق في أزمته الاقتصادية الخانفة، بما في ذلك دعم المصارف والمؤسسات الدولية. ويمكنها أن تعبّر عن رغباتها وتمنياتها ولكنها لا تستطيع فرْضها على العراق. ومن ضمن خطتها مطالبة العراق بخفض النفقات، بدءاً بالحشد. وتود الولايات المتحدة ايضاً أن تَعلم بالضبط عدد أعضاء الحشد ومكان وجود جميع قادته.
وبالنسبة لأميركا، فإن الحشد سيُعتبر دائماً هيئة مؤيّدة لإيران في العراق ولا يمكن للولايات المتحدة فعل الكثير حيال ذلك، مهما كان الضغط الذي تمارسه. وأي محاولة لإزالة الحشد ستشعل حرباً شاملة في بلاد الرافدين يتم فيها أولا استهداف القوات الأميركية اذا استُهدفت قواعد الحشد. ولا يمكن للولايات المتحدة أن تعيش في بيئة معادية، حيث الجزء الأكبر من السكان مسلّحون جيداً ولديهم خبرة قتالية عالية. وإذا كانت الولايات المتحدة تعتقد أنها قادرة على المناورة وكسب الوقت للبقاء في العراق طالما أرادت، فلن تواجه سوى حلفاء إيرانيين أكثر عدوانية في العراق، بما في ذلك «حزب الله» اللبناني، الذي يتمتع بنفوذ في بلاد ما بين النهرين.
قررت إيران عقد الصفقات التجارية مع بغداد، وتزويدها بالطاقة، وبناء الطرق وإبرام العقود المختلفة على الرغم من العقوبات الأميركية وعدم التدخل في العراق سياسياً ما دام الهدف إخراج القوات الأميركية.
لقد قرر العراق حماية عقوده البالغة 20 مليار دولار مع الصين وليست لديه نية للانسحاب او التراجع عنها. وسينتظر التطورات بعد أكتوبر 2020 ومعرفة مَن سيتم إعادة انتخابه في البيت الأبيض ليقرر خطوته التالية.
في غضون ذلك، لا يمكن للكاظمي أن يفعل الكثير لفرض إصلاحات استراتيجية. ومن المفترض أن يعدّ للانتخابات البرلمانية المقبلة ويتعامل مع الوضع الاقتصادي المتردي الصعب. وبالتالي فهو يحتاج إلى لعب أوراقه بطريقة جيدة لزيادة فرص إعادة انتخابه.
ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة لديها القليل من النية لتخفيف الضغط على العراق من خلال «قانون قيصر». وتودّ أميركا أن ترى قطْعاً أو حداً من التعاون والعلاقة العراقية – السورية.إلا أن هذا المطلب مستحيل لاستخدام«داعش» الحدود بين البلدين، ما يفرض التعاون الأمني والاستخباري.
علاوة على ذلك، فإن تدفق البضائع والنقل البري من إيران إلى العراق، وسورية، ومن لبنان إلى العراق هو شريان لن تتمكن الولايات المتحدة من قطْعه. وتتحدى إيران بالتأكيد أي محاولة أميركية لإغلاق الحدود.
واشنطن لن تتوقف عند هذا الحد: لبنان هو التالي في قائمتها. وليس من المستحيل أن تستخدم الولايات المتحدة سياسة «الأرض المحروقة»، ليس فقط لمحاولة وقف توريد الأسلحة لـ«حزب الله»، ولكن أيضاً لمنْع روسيا والصين من القدوم الى الشرق الأوسط والتمتع بعلاقة سياسية – اقتصادية استراتيجية تتحدى هيمنة أميركا الإقليمية والعالمية.

شاهد أيضاً

البيت الابيض يهتز بعد نشر “نيويورك تايمز” معلومات صادمة بشأن تفجير خطوط “السيل الشمالي 2”

رفض البيت الأبيض بصورة قاطعة، المعلومات التي قالت إن عبوات ناسفة تحت خطوط “السيل الشمالي …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.