طالب أعضاء في السلطة القضائية برد قانون تعديل قانون المرافعات، الذي أقرّه مجلس الأمة، في جلسته الأخيرة، وأضاف فيه باباً لمخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة، مؤكدين أن القانون يخلّ بحصانة القاضي، ويدينه وعضو النيابة بتهم جنائية بغير الطريق الذي رسمه القانون، كما يخلّ بمبدأ حجيّة الأحكام وتدرجها، وقاعدة ان الحكم الصادر من محكمة أدنى يطعن عليه أمام محكمة أعلى.
وفي مذكرة اعتراض قدمت لرئيس مجلس القضاء الأعلى المستشار يوسف المطاوعة، ذكر أعضاء السلطة القضائية عدداً من الملاحظات، وهي أن الفلسفة التي تقوم عليها فكرة المخاصمة أصبحت من الماضي غير النافع لما جره على الدول التي جربته من مساوئ لا حصر لها، داعين الى استبدالها بنظام متحضر يحفظ من جهة للقضاء هيبته واجتهاده، ويحفظ حقوق المتقاضين من جهة أخرى.
وجاء في مذكرة أعضاء السلطة القضائية:
أقر مجلس الأمة المداولة الثانية تعديل قانون المرافعات، بإضافة باب لمخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة، عليه بعض الملاحظات الفنية التي نطرحها. ونود في البداية ان نشير إلى أننا لسنا ضد مساءلة القاضي أو عضو النيابة، فهي مقررة أصلا من خلال الدعوى التأديبية المنصوص عليها في قانون تنظيم القضاء، والتي لا تستثني أحدا منهم، ولا تقف عند درجة أو مسمى معين، وهي مساءلة مشدّدة يتجاوز حدها السلوكيات العامة لأعضاء السلطة القضائية، فكم من قاض أو مستشار أو عضو نيابة تم عزله أو أجبر على الاستقالة لمجرد قيامه بسلوكيات لو قام بها غيره لاعتبرت تصرفات شخصية لا أثر لها على وظيفته، وهي مساءلة رغم شدتها، إلا أنها واجبة القبول بسبب أهميتها لضبط مهنة القضاء فنيا وسلوكيا وهي أيضاً لا تشكّل محلا لاعتراض رجال القضاء والنيابة العامة، ولكن ما يشكل الاعتراض هو جعل تلك المساءلة قيداً على عمل القاضي، وسيفا مصلتاً على رقبته كما سنبينه لاحقا، إضافة الى انه لم يقل أحد من القضاة إنهم معصومون من الخطأ وانه لا يجوز تخطئتهم، فالواقع يشهد على عكس ذلك، فهذه أحكامهم القضائية يجري يومياً الطعن عليها أمام المحاكم العليا، والتي قد تؤيدها أو تلغيها دون أي اعتراض من القضاة أو ضغينة، بل على العكس يتم قبولها بصدر رحب وتستمر العلاقة الطيبة والمتميزة بين بعضهم على اختلاف درجاتهم.
كما أننا نود أن نشير أيضا إلى أننا لا نعترض على تقرير حق التعويض للمتضرر من القضاء، بل اننا بالعكس نرى انه تقرير مستحق متى توافر ركن الخطأ. ولكننا نرى بالمقابل انه لا يجوز ان يحمل القاضي دون غيره تبعات هذا الخطأ بحيث ترهق كاهله، ولاسيما أنه خطأ غير عمدي، ومحله ان ثبت مجازاة القاضي وظيفيا وليس تحميله قيمة التعويض والذي قد يصل إلى الملايين. أما عن الملاحظات الفنية فهي كما يلي:
أولاً:
إخلاله بمبدأ حجية الأحكام. اذ لم يقتصر القانون على الحكم بالتعويض، بل نصت المادة 300 منه على الحكم ببطلان التصرف أي «الحكم». والنص المذكور لم يجعل بطلان الحكم لأسباب إجرائية كعدم انعقاد الخصومة أو إغفال إجراء جوهري كما هي حالات البطلان. وإنما جعل منها حالة الخطأ الجسيم، التي تتطلب أن تقوم المحكمة المرفوع لها دعوى المخاصمة من جديد بإثبات خطأ الحكم الذي أصدره القاضي المخاصم. بالرغم انه أصبح نهائيا وله حجيّته ولا يجوز الطعن عليه.
ثانياً:
إخلاله بمبدأ تدرج الأحكام وقاعدة أن الحكم الصادر من محكمة أدنى يطعن عليه أمام محكمة أعلى، حيث انه وبعد ان نصت المادة 306 من القانون على أن رفع هذه الدعوى یكون أمام محكمة الاستئناف، نصت المادة 311 على حقها بالحكم ببطلان التصرف «أي الحكم»، رغم أنه ربما يكون صادرا من محكمة أعلى كمحكمة التمييز، فكيف يمكن لمحكمة أدنی أن تراقب محكمة أعلى وان تبطل حكمها لأسباب موضوعية؟.
ثالثاً:
إخلاله بحصانة القاضي. فقد نصت المادة 308 على سماع أقوال القاضي المخاصم أو عضو النيابة العامة عن وقائع جنائية، مثل جريمة التدليس المنصوص عليها بالمادة 237 من قانون الجزاء، وذلك دون اشتراط أخذ موافقة مجلس القضاء على رفع حصانته حسبما نصت عليه المادة 37 من قانون تنظيم القضاء.
رابعاً:
إدانة القاضي أو عضو النيابة بتهم جنائية بغير الطريق الذي رسمه القانون، حيث نصت المادة 311 على الحكم على القاضي بالتعويض وذلك دون الإخلال بالمسؤولية الجزائية والتأديبية، أي أنها تسمح بإدانة القاضي بتهم جنائية قبل صدور حكم جزائي، ما يطرح سؤالا منطقيا ماذا لو حكم القاضي الجزائي للقاضي المخاصم بعد ذلك بالبراءة؟.
خامساً:
لم يعالج القانون حالة تعدد القضاة الذين أصدروا الحكم، ولا مخاطر الكشف عن سرية المداولة.
إن من المعلوم أن بعض الأحكام تصدر من دوائر ثلاثية أو خماسية. وغالبا لا يعرف المخاصم من أوقع الخطأ فيخاصم الدائرة كلها، فإن كتم القاضي سره لحقه التعويض دون ذنب، وان أفشى سر المداولة، فربما يكون قد كشف ما يجب أن يستر. كما انه من جهة أخرى يكون قد خالف المادة 28 من قانون تنظيم القضاء رقم 1990/23 المعدل والتي تنص على أنه لا يجوز للقضاة إفشاء سر المداولات ما قد يعرّضه للمساءلة.
سادساً:
تعارضه مع نصوص الرد الواردة بقانون المرافعات، حيث نصت المادة 310 من القانون على ان يكون القاضي او عضو النيابة غير صالح النظر الدعوى أو المشاركة في التحقيق، وذلك من تاريخ الحكم بقبول دعوی المخاصمة شكلا، في حين أنه إذا كان الحكم قد صدر فعلا فلا محل لإعمال هذا النص، وان كان لم يصدر فمحله دعوى الرد والتي لها إجراءاتها الخاصة في هذا الشأن.
سابعاً:
قصور المادة 309 من القانون، حيث انها نصت على تشكيل دائرة لنظر دعوى المخاصمة من أقدم خمسة مستشارين من محكمة الاستئناف، وذلك دون أن تربط تخصصاتهم بنوع الدعوى المخاصم عليها القاضي، ما يتصور معه أن تشكل كلها من قضاة الجنائي وهي قضية مدنية أو العكس، مما يترتب عليهم ترجيح عدم وصولهم للنتيجة الصحيحة بسبب ذلك، وبالتالي الوقوع بالخطأ من جديد.
ثامناً:
إخلاله بمبدأ لا سلطان على القاضي في قضائه المنصوص عليه بالمادة 193 من الدستور.
ذلك انه بإعطاء المتخاصمين أمام القاضي الحق في مخاصمته مستقبلا بعد إصداره الحكم، وجره الى المحاكم هذه المرة ليس كقاضي بل كخصم من الخصوم ومطالبتهم بالحكم عليه بالتعويض، ما يفتح المجال واسعا للخصوم بالتأثير على حكمه وذلك من خلال التلويح برفع هذه الدعوى في حال الحكم ضدهم أو في غير صالحهم، وهو الأمر الذي قد يترتب عليه ادخال الخوف والروع الى قلبه ما قد يؤدي الى تردده في إصدار الحكم او الميل فيه تحاشيا و اتقاء لما قد يتوعده به الخصوم.
تاسعاً:
تعارضه مع طبيعة عمل القاضي القائم صلبها على الاجتهاد سواء في فهم القانون أو الواقع.
فطبيعة عمل القاضي تتطلب منه البحث والاجتهاد قبل إصداره الحكم، مما يوجب الا يحاسب على النتيجة ولو أخطأ بها، حتى لا يتخوف من الاجتهاد، لذلك نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يشير الى حصول القاضي على الثواب من الله حتى لو أخطأ، طالما انه اجتهد دون ظلم أو جهل، ولذا فان تسليط سيف المخاصمة على القاضي في حال الخطأ يؤدي الى جمود الأحكام وبعد القضاة عن الاجتهاد خشية الوقوع بالخطأ.
عاشراً:
إخلاله بمبدأ المساواة المنصوص عليه بالمادة 29 من الدستور.
حيث أشارت الفقرة الأولى من المذكرة الإيضاحية للقانون، الى انه تم تشريعه اعمالا لمبدأ المساواة المنصوص عليه بالمادة 29 من الدستور، في حين انه بالاطلاع على قوانين الدولة نجد أنها خلت من نص مماثل ينص على تحمل تابعي الدولة أو أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية مثل هذا الأمر.
حادي عشر:
استخدمت المادة 300 من القانون في مخاصمة القاضي أو عضو النيابة العامة عبارة «في عمله» ولم تقل «في حكمه».
وهي كلمة فضفاضة تسع في معناها إمكانية مساءلته حتى عن أعماله غير القضائية، مثل إدارته للتنفيذ أو إشرافه على الانتخابات وغيرها من الجهات التي ينتدب اليها، رغم انها لم تقرر ذلك لمن يشاركه من تابعي الدولة.
ثاني عشر:
كثير من الدول المتطورة قضائيا، كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ابتعدت عن تشريع مثل هذا القانون لمجافاته لطبيعة الوظيفة القضائية. كما أن دولا ممن شرعته عدلت عنه الى قانون مسؤولية الدولة عن عمل القضاء، حيث يضمن المتضرر حقه ولا يضام القاضي.
ثالث عشر:
إن تشريع مثل هذا القانون سيؤدي الى إرباك العمل القضائي، إذ انه سيدفع من جهة بالقضاة الى هجر العمل في الدوائر ذات المطالبات المالية الكبيرة «الدوائر التجارية والمدنية» التي ترجح معها أن تأتي من ورائها دعوى المخاصمة. كما سيؤدي الى تباطؤ إصدار الأحكام نتيجة تردد القضاة في إصدارها خشية الوقوع بالخطأ.
رابع عشر:
إرهاق النيابة العامة وشل قدرتها على العمل، وذلك ان قانون المخاصمة أدخل ضمن الخاضعين لأحكامه أعضاء النيابة العامة، وأجاز في المادة 311 الحكم ببطلان تصرفاتهم بما يعني شمول قراراتهم، سواء في حجزهم للمتهمين أو حبسهم أو قرارات الحفظ والاحالة وغيرها من القرارات، بالإضافة الى القرارات التي ينفرد بإصدارها النائب العام أو غيرها من القرارات التي يجوز فيها التفويض.
كما أجاز في المادة 310 منه وقف عضو النيابة عن استمراره بالتحقيق، وهذا بخلاف ما قرره من جواز الحكم عليه بالتعويض، ولما كانت قرارات النيابة العامة، بحسب طبيعة عملها، كثيرة ويومية فإن فتح الباب بجواز رفع دعوى المخاصمة، سواء على أعضاء النيابة العامة أو النائب العام بشخصه باعتباره رئيساً على هذا الجهاز، سيسبب في إرباك عمل النيابة العامة وتعطيل العمل فيها، وهو ما سيؤثر مباشرة بتعطيل عمل جميع الجهات العدلية والضبطية المرتبطة بعمل النيابة العامة.
ختاماً: من خلال العرض السابق نرجو أن نكون قد وفقنا الى بيان أن الفلسفة التي تقوم عليها فكرة المخاصمة، أصبحت من الماضي غير النافع، لما جره على الدول التي جربته من مساوئ لا حصر لها، واستبدلتها بنظام متحضر يحفظ من جهة للقضاء هيبته واجتهاده، ويحفظ حقوق المتقاضين من جهة أخرى، ونرجو من حضراتكم نقل ملاحظاتنا سالفة الذكر للسلطة المختصة والتي نهيب بها رد هذا القانون للأسباب التي ذكرناها لأسباب أخرى قد تكون أفضل، واستبداله بقانون آخر يضمن من جهة للمتضرر من القضاء حصوله على التعويض. ولا يضير من جهة أخرى بالقضاة أو أعضاء النيابة العامة أو يؤثر على عملهم.
وذيّلت المذكرة بالعبارة «وكلاء ومستشارو محكمتي التمييز والاستئناف ووكلاء وقضاء المحكمة الكلية».