في صفحة مشرقة جديدة من صفحات القضاء الكويتي الشامخ، خرج منطوق حكم محكمة التمييز الخاص بقضية الاختلاسات التي تمت في السوق المركزي للعاملين بوزارة الداخلية، حاملاً في طياته الكثير من المغازي والرسائل والمضامين، من بينها أن أموال هذا السوق أموال عامة لا يجوز الاستيلاء عليها، كما أن العاملين فيه موظفون عامون يطولهم الحساب والرقابة، وفقاً للقوانين المعمول بها.
وتعقيباً على الحكم، قال أستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق بجامعة الكويت الدكتور علي حسين الدوسري إن «جمعية الشرطة تعتبر أحد المرافق العامة لوزارة الداخلية، كونها تقوم بخدمة الوزارة وأفرادها، عبر تقديم المنتجات الاستهلاكية المدعمة، وبالتالي كل من يعمل فيها يقوم بتقديم خدمة عامة للوزارة تحت إشرافها، ويعتبر موظفاً فعلياً عاماً، الأمر الذي يجعله تحت نطاق المساءلة القانونية وتعتبر هذه الأموال العائدة للجمعية أموالاً عامة، لأن دعم المنتجات التي تباع من خلالها يأتي من وزارة الداخلية وأموال وزارة الداخلية أموال عامة يجب حمايتها وفقاً للقوانين المعمول بها».
وأضاف الدوسري لـ«الراي» إن «بعض الموظفين العامين المتهمين في هذه القضية تضخمت حساباتهم بشكل كبير، ما أدى لأن يكون هناك مراقبة لاحقة على هذه الحسابات، وأظهرت نتائج التحقيق أن هناك اختلاسات مالية كبيرة»، معتبراً أن «هذا الحكم كشف ضعف الرقابة خلال الفترة التي حدثت فيها الاختلاسات، ما أدى للحصول على هذه الأموال من دون محاسبة، وكان من المفترض أن يكون هناك محاسب مالي يراقب جميع الأموال الداخلة والخارجة، عبر الدفاتر الرسمية لكن هذه الرقابة الضعيفة أدت لهذه الاختلاسات».
ولفت إلى أن «التلاعب في الحسابات أدى لاختلاس الأموال، والحكم كان رادعاً وطال كل من شارك في هذا الفعل، بعقوبات وصلت إلى 15 عاماً وتفاوتت حسب فعل كل شخص، بالإضافة إلى إرجاع الأموال إلى خزينة الدولة، وهذا أمر حميد ومشروع، حيث إن هذه الأموال تم الحصول عليها من دون وجه حق»، مشدداً على «ضرورة وجود خطة لمراقبة الأموال في الجمعية أو مرافقها الأخرى وفحص أرصدة جميع الموظفين العامين مما سيحد بشكل كبير من التضخمات والحفاظ على المال العام».
أما دكتور القانون الجزائي في كلية الحقوق بجامعة الكويت محمد ناصر التميمي، فقال لـ«الراي» إن «حكم محكمة التمييز بالدائرة الجزائية في الجلسة المنعقدة بتاريخ 26 يوليو 2020، المعروفة بقضية اختلاسات جمعية الشرطة، قدم قواعد أساسية مباشرة وغير مباشرة في شأن جملة من القواعد القانونية، كتفسير ما يخضع لمفهوم الأموال العامة وفق القانون 1 /1993 في شأن حماية الأموال العامة، وفي ما يتعلق بجرائم غسل الأموال، وفق نص المادة الثانية من القانون 106 /2013 في شأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما أن الثراء القضائي في هذا الحكم يتمثل في التباين في التفسير القضائي بين كل من محكمة الاستئناف ومحكمة التمييز، في شأن إسباغ صفة الأموال العامة وما يستتبعها من آثار على أموال جمعية الشرطة».
وأكد التميمي أن «الحكم أسبغ صفة الأموال العامة على أموال جمعية الشرطة، وهو ما ذهبت إليه محكمة التمييز، بالمخالفة لما ذهبت إليه محكمة الاستئناف التي نفت صفة الأموال العامة عن أموال جمعية الشرطة. ويسند رأي محكمة التمييز، وكذلك طعن النيابة العامة، نص المادة 2 من قانون الأموال العامة التي أشارت إلى أنه يقصد بالأموال العامة ما يكون مملوكاً أو (خاضعاً) بقانون لإدارة الدولة. كما عولت محكمة التمييز في هذا الشأن في تسنيد رأيها لصفة المتهم باعتباره موظفاً عاماً، بغض النظر عن إشكالية حيازته للمال محل الاختلاس أو مسألة الاختصاص أو التبعية للجهة المجني عليها».
وأشار إلى أنه «ثبت من واقع القضية أن بعضاً من المتهمين قد حرروا 24 شيكاً، بناء على وصولات وفواتير وهمية، وقام المتهم الثاني بتقديم تلك الشيكات على فترات متفاوتة للبنك لاستحقاقها، وهو ما يشكل صورة الجريمة المتتابعة، وهي عبارة عن مجموعة أفعال مستقلة تشكل بطبيعتها جرائم منفصلة، إلا أن وحدة الحق المعتدى عليه ووحدة المشروع الإجرامي تجعلان من هذه الأفعال ثمرة لمشروع إجرامي واحد يشكل بطبيعته جريمة واحدة وليست جرائم منفصلة، وهو ما تبنته محكمة التمييز دون الإشارة الصريحة لذلك»، موضحاً أن «صورة الجريمة المتتابعة تتمثل بقيام المتهم الأول والثاني والخامس بحركة تحويلات مالية متفاوتة زمنياً، تحقيقاً لغرض إجرامي واحد وهو إخفاء المصدر غير المشروع للمال والذي تحققت به جريمة غسل الأموال».
المحكمة بنت الاتهام وفق قانون غسل الأموال ومكافحة الإرهاب
الحكم يشير إلى جماعة إجرامية منظمة
قدم التميمي قراءة لمنطوق الحكم، في ما يتعلق بغسل الأموال، وقال «تناولت محكمة التمييز جريمة غسل الأموال من زوايا عدة تشكل في مجملها تأطيراً لموقفها تجاه ثبوت المسؤولية الجزائية عن تلك الجريمة. حيث أشارت المحكمة في معرض بيانها إثبات عمليات غسل الأموال المختلسة، بأنها حولت لحسابات المتهم الأول – مدير السوق – ولحسابات وثيقة الصلة به، وهو ما يستدعي الإشارة إلى أن جزءاً من تلك الأموال قد ذهب لحسابات ترتبط بالمتهم وليست له. ويفهم من ذلك أن مسألة الارتباط بالمتهم تقاس بجوانب عدة، كالمعرفة أو القرابة أو الاتفاق أو السيطرة المادية أو المعنوية على تلك الحسابات، أو ما يمارسه من نفوذ عليها تعود عليه بالنفع المادي أو الأدبي».
وأضاف التميمي «أشارت المحكمة في معرض بيانها للبناء القانوني لجريمة غسل الأموال، وفق نص المادة 2 من قانون غسل الأموال ومكافحة الإرهاب، بأنه يكتفى بالقصد الجنائي العام في جريمة غسل الأموال إذا تعلق الأمر بالفقرة (ج) من المادة المعنية باكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها. وهذا يجرنا للإشارة إلى أهمية هذا الموقف من المحكمة في أن أي اكتساب أو حيازة أو استخدام لمال – أيا كانت صورته – متحصل من جريمة مع علم الفاعل بذلك يشكل جريمة غسل أموال بطبيعتها. وعلى سبيل المثال تعتبر أي حيازة لمال متحصل من تزوير طبيات أو وصولات أو فواتير جريمة غسل أموال بطبيعتها وهو ما يسمى بالغسل التلقائي للمال أو ما يعرف في الفقه الفرنسي auto-blanchiment».
وقال «استندت النيابة العامة في صحيفة الاتهام، فيما يتعلق بجريمة غسل الأموال للمادة 30 الفقرة (ب) من قانون غسل الأموال والتي تشدد العقوبة، إذا ارتكب الجاني الوظيفة مستغلاً سلطة وظيفته أو نفوذها. ونرى أن النيابة العامة كانت لديها الإمكانية بالاستناد للفقرة (أ) أيضا وهي حالة ارتكاب الجريمة من خلال جماعة إجرامية منظمة، والحقيقة أن ما أوردته محكمة التمييز من واقعات ينبئ وبجلاء وجود الاتفاق المسبق بين المتهمين وتنظيم عملية الأدوار ما يقيم في حقيقته أعمدة الجماعة الإجرامية المنظمة، حيث إن هذه الأخيرة باعتبارها كياناً غير مشروع لا تحد بشكل معين أو هيكلة محددة، بل كل سلوك ينبئ بطبيعته قيام تلك الجماعة هيكلياً، عبر توزيع الأدوار والأهداف وتقاسم الحصص والثمار».
ردّ الأموال المختلسة وتسديد الغرامة
تناول الدكتور محمد ناصر التميمي قضية رد الأموال المختلسة والغرامة، قائلاً «في منطوق حكمها، حكمت المحكمة على المتهمين جميعاً، عدا الخامس، برد المبلغ المختلس الذي يجاوز مليون دينار، وتغريمهم ضعف هذا المبلغ، وهو تطبيقاً لنص المادة 16 من قانون الأموال العامة. والحقيقة أن تنفيذ حكم الرد يكون بما آل لكل محكوم عليه من منفعة أو مال، بمعنى أن تنفيذ الرد لا يكون بالتقسيم الحسابي بالمساواة، بل بالانتفاع الحقيقي بثمار الجريمة. أما الغرامة باعتبارها عقوبة تكميلية وجوبية في هذا الصدد، فإن تنفيذها يكون مستقلاً بين كل محكوم عليه، ولا تنفذ بقسمة التساوي، بل كل منهم عليه غرامة ضعف ما استولى عليه، أو سهل للغير اختلاسه أو الاستيلاء عليه من مال أو منفعة أو ربح».
المصدر: الراي