في رحمها تتكون الحياة، وفيه تنمو وتكبر وتتحوّل جنيناً ينتظر أوانه حتى يخرج الى النور ويلتقي بمن وهبتْه الحياة. ولكن ماذا لو تمرّدت الطبيعة وتعطّلت قواعدها فحرمت المرأة نعمة وجود الرحم الذي يحوّلها أماً ويتلقى في أحشائها بذرة الحياة؟
ماذا يحدث حين ينهار حلم الأمومة؟ وأي صدمة تشعر بها الأنثى حين تكتشف أن الرحم الذي يفترض أن يحتضن هذا الحلم قد غيّبتْه الطبيعة عن جسمها؟
حتى الأمس القريب كان غياب الرحم مأساةً لا حلّ لها تحرم المرأة حلم الإنجاب وتضع نقطة ختامٍ لأمنية الأمومة. ولكن المستحيل صار ممكناً بعدما تغلّب الطب على عثرات الطبيعة. ففي لبنان تم إجراء اول عملية زرع رحم لامرأة شابة تكللت بالنجاح التام وأدت بعد أشهر الى حمل فولادة، فأمومة وأبوة كانت لسنوات مضت حلماً مستحيلاً.
في مستشفى ومركز بلفو الطبي في لبنان تحقّقت المعجزة وصارت ريهام أماً.
طريق الأمومة كان شائكاً، مُعَبَّداً بالصعاب التي تُلامِسُ المستحيلَ. لكن إصرارَ الفريق الطبي بشقّيه اللبناني والسويدي كان أقوى، والرغبةُ في الإنجاب عند ريهام شحادة وزوجها خليل البواردي تفوّقت على كل التحديات.
القصة بدأت تباشيرُها في السويد مع د. رندة عاقوري الأستاذة والطبيبة المتخصصة في أمراض النساء والتوليد. فخلال دراستها في جامعة غوتنبرغ السويدية بدأت هذه الطبيبة الحالمة في العمل مع فريق مختص على إجراء تجارب لزرع الرحم على الفئران والأرانب، وكانت الفكرة لا تزال مبهمة وفي طور الدراسات. لكن نجاح التجارب على الحيوانات فتح بابَ الأمل أمام إمكان إجرائها عند النساء اللواتي فقدن الرحم لأسباب مختلفة. واحتاج الأمر لعدة سنوات من الأبحاث والتجارب حتى بدأت تظهر تباشير النجاح.
مستشفى «بلفو» تلقّف الأمر وكان البروفسور غسان معلوف المدير الطبي للمستشفى صاحب رؤية في هذا الاتجاه وأراد أن يضع طاقات المستشفى وخبراتها في خدمة هذا البحث العلمي الرائد حول زرع الرحم بغية تحقيق إنجاز غير مسبوق في العالم العربي.
وبدأت الرحلةُ العام 2018 عبر التعاون بين الفريق الطبي السويدي والفريق اللبناني الذي خضع لتدريبات ليتمكّن من مواكبة أول عملية زرع رحم في العالم العربي ومتابعة كل تفاصيلها لضمان نجاحها. وتولى التنسيق بين الفريقين البروفسور جوزيف عبود، الاختصاصي في الأمراض النسائية والعقم، والذي كشف لـ «الراي» كل تفاصيل العملية المزدوجة غير المسبوقة:
تجارب علمية فتحتْ بابَ الأمل
كانت السيدة الأردنية ريهام تعاني مما يعرف بالرحم الطفولي وهي مشكلة ناجمة عن تشوّهٍ في الرحم تجعل عملية الإنجاب مستحيلة. وبعض النساء قد يولدن بلا رحم أو يخضعن لعملية إزالة له بسبب وجود أورام سرطانية أو تليُّف أو أمراض أخرى، وكانت هؤلاء النساء يلجأن في السابق الى الرحم المستعار أو الأم البديلة للإنجاب حيث يتم تلقيح أجنّة من بويضاتهن ثم زرْعها في رحم آخَر. ورغم نجاح هذا الأمر إلا أنه كان يسبّب في كثير من الأحيان شعوراً بالنقص عند الأمهات اللواتي يرغبن في حمل الجنين في أحشائهن. إلى أن تمكّنت الباحثة اللبنانية الأصل د. رندة عاقوري مع فريقها السويدي من إنجاز عملية زرع رحم للحيوانات بنجاح مع إعطاء العلاجات اللازمة لتخفيف المناعة حتى لا يرْفض الجسمُ الرحمَ المزروع.
ويضيف د. عبود: «زرع الرحم يُعتبر أصعب من سواها من عمليات الزرع، إذ لا يكفي ان يتقبل الجسم الرحم المزروع بل يجب أن يكون هذا الأخير قادراً على تأدية وظيفته في حمل الجنين وإتمام عملية الولادة. وقد تبيّن ان الأدوية الخاصة بتخفيف المناعة لا تؤثّر على الجنين لكنها تجعل عملية الحمل عالية المَخاطر وتنبغي مراقبتها باستمرار. وحين عرفت ريهام عبر قراءاتها عن إمكان إجراء هذه العملية، بدأتْ التفكير بها ولا سيما أنها شابة وحالة المبيضين عندها ممتازة وأن والدتها مستعدة لمنْحها رحمها وخصوصاً أنها باتت في سنّ انقطاع الطمث. وبعد تَواصُلها مع المستشفى واتخاذ القرار بالسير بهذا الإجراء البحثي التجريبي، كانت الخطوة الأولى إجراء الفحوص اللازمة لكل من ريهام ووالدتها لمعرفة مدى التطابق الجيني بين الاثنتين، وحين وجدْنا التطابقَ تاماً انتقلنا الى إجراء فحوص أكثر لرحم الأم لنرى حجم الشرايين المتصلة فيه وقوتها وإن كان بالإمكان استئصالها ثم وصلها من دون ان تتأذى وإذا كان الدم يجري فيها بسهولة».
وتابع: «حين تأكدنا من صلاحية الرحم الممنوح من الأم، قمنا بإجراء عملية تفعيل للإباضة عند ريهام، ومن ثم عملنا على سحب البويضات منها وتلقيحها ببذرة زوجها على طريقة IVF. وعند تكوّن الأجنة قمنا بتجميد 12 واحداً منها. وكانت السيدة بحاجة لإجراء عملية لصنع مهبل جديد لها تتمّ من خلالها عملية زرع الرحم ومن ثم الولادة. وقد أجرينا العملية ونجحت تماماً، وانتظرنا 5 أشهر قبل الانتقال لعملية زرع الرحم كانت خلالها المريضة تتلقى علاجاً لتخفيف المناعة حتى لا يرفض جسمها الرحم المزروع».
تنسيق العمل ضمانة النجاح
ويوضح د. عبود أنه «في يوم الجراحة تم العمل في غرفتيْ عمليات بتعاونٍ بين الفريقين اللبناني والسويدي. وتولى فريقٌ أول إستئصال الرحم من الأم على يد جرّاح مختص بشكل دقيق جداً للمحافظة على الشرايين، ثم قام فريق ثان بالعمل على تنظيف الرحم وإعداده لعملية الزرع، وتم بعدها نقله الى الإبنة مع استمرار مدّها بالأدوية المخفّفة للمناعة. واستمر العمل في الغرفتين أكثر من 12 ساعة، وبعدها نُقلت ريهام الى غرفة خاصة لتجنّب أي عدوى نظراً لضعف المناعة عندها. وبعد التأكد من حسن حالتها انتقلت ووالدتها الى البيت».
وأضاف: «بعد إتمام عملية الزرع كان لا بد من متابعة دقيقة ومستمرة لحالها للتأكد من عدم رفض الجسم للرحم المزروع. وكنا نجري فحوص الدم ونأخذ خزعة من عنق الرحم كل 15 يوماً لنتأكد من عدم الرفض. وبعد شهرين تأكدنا أن كل شيء بخير، والأدوية أعطت مفعولها وتقبّل الجسمُ الرحم. وغادرت ريهام الى الأردن وطلبْنا منها إجراء فحص دوري لقياس المناعة. وبعد مضي 8 أشهر، عرفْنا أن الرحم سليم 100 في المئة وقادر على استقبال جنين. أخذنا واحداً من الأجنة المجمّدة وزرعْناه في الرحم، وسار الأمر بشكل ممتاز منذ المحاولة الأولى وحصل الحمْل. فكان علينا متابعته بشكل دقيق مع أدوية لتسييل الدم. ومرّت أشهر الحمل بلا أي مضاعفات، وكانت بعدها ولادة طفلة رائعة حملت اسم آية بلغ وزنها كأي جنين طبيعي 2.600 غ ولم تحتج لحضانة أو أي إجراء مميّز. وتمت الولادة في شهر يناير الماضي، لكن وضع»كورونا«لم يسمح بالإعلان عنها بشكل لائق. واليوم تستعد ريهام لعملية زرع جنين آخَر، ونأمل إذا تم كل شيء على خير أن تجري إزالة الرحم المزروع بعد الولادة الثانية حتى لا تضطر الأم لاستخدام أدوية تخفيض المناعة لوقت طويل ولا سيما أن الرحم قد أدى المطلوب منه ولم تعد بحاجة إليه».
يبدو البروفسور جوزيف عبود فخوراً جداً ومتحمساً للنتيجة الرائعة التي تحققت ولا سيما أن محاولات عدة جرت في العالم العربي ولم تتكلل بالنجاح. و يؤكد «أن المتابعة الحثيثة والدقيقة لحالة المريضة هي التي أبعدت كل المشاكل عنها، فقد كان الأطباء واعين لأي طارئ يمكن أن يَحْدُثَ مثل الالتهابات أو الفطريات أو غيرها، والمريضة من جهتها تجاوبت كلياً مع البرنامج المطروح للفحوص الدورية. واليوم عملية زرع ثانية قد حصلت، وهي تسير بشكل جيد لكنها لا تزال بحاجة الى وقت ومراقبة قبل زرع جنين في الرحم».
وأكد عبود كما البروفسور معلوف، المدير الطبي لمستشفى بلفو، أن المستشفى «اعتمد الشفافية التامة والمعايير الأخلاقية والدينية العالية في التعاطي مع الأمر واعتمدنا برنامجاً أخلاقياً صارماً يقضي بأن تكون المريضة شابة ومتزوجة وأن يتم أخذ البذرة من الزوج لتلقيح البويضة وأن يكون المتبرع بالرحم شخصاً قريباً منْعاً للمتاجرة بالأعضاء».
وأوضح الطبيبان أن أياً من الأطباء المُشارِكين لم يتقاض أتعاباً عن العملية لأنها أتت ضمن بحث اختباري ووحدها الأدوية كانت تكلفتها عالية بعض الشيء. لكن النجاح رَسَمَ في سجلّ كل المشاركين علامةً مضيئةً تغلّبت على كل الصعاب والمنافسة.
بين زرع الرحم و الكلى الأمل واحِد
إتمام عملية الزرع احتاج الى طبيبٍ مختص في زرْع الأعضاء وسبق له أن أجرى بنجاح عمليات زرع كلية لمرضى بحاجة إليها. من هنا كان مفصلياً دورُ د. باسكال الحاج، الاختصاصي في المسالك البولية وزرْع الكلى، في عملية زرع الرحم. فقد شارك ضمن الفريق الثاني في إجراء الزرع للمريضة ومتابعة حالتها مع عدد من الأطباء المختصين بأمراض الكلى والمناعة.
وفي حديثه لـ «الراي» يقول د. باسكال «إن كل عملية زرع تحتاج بدايةً الى تقييم نفسي للواهب والمتلقي للتأكد من تقبّلهما لهذه العملية. بالنسبة لزراعة الرحم فهي تقنياً تشبه عملية زرع الكلية، لكنها أصعب منها لأن شرايين الرحم رفيعة وطويلة ويجب إقفال كل الأنابيب الدقيقة الخارجة منها. كما أن موقعَه في الحوض يجعل التعامل معه صعباً وعملية إستئصاله دقيقةً وذلك لوجوب الحفاظ على الشرايين وعدم التسبب بأي ضرر للمنطقة المحيطة بالرحم مثل المبولة والكلى وأن يبقى سليماً وفعالاً غير ممغوط أو ممزق ليتمكن من حمْل جنين. من هنا تُعتبر عملية الاستئصال أصعب وأدقّ من عملية الزرع. وتزداد العملية صعوبةً كون الواهبة امرأة حية ويجب الحفاظ على صحتها وسلامتها ومنْع حدوث أيّ مضاعفاتٍ عندها، في حين أن استئصال الأعضاء من واهِبٍ متوفّ أسهل بكثير. وكنا حرصنا على اتباع البروتوكول الخاص الذي يرافق كل عملية زرع قبل وبعد الإجراء، ومتابعة كل التفاصيل. وكان الأمل كبيراً، لكن الخوف أيضاً كبير ولا سيما أن المريضتين أردنيتان أي أتتا خصيصاً الى لبنان للخضوع لهاتين العميليتين الكبيرتين، وقد عقدتا كل الآمال على نجاحهما. لكننا حرصنا على إعلام ريهام وزوجها ووالدتها بكل المَخاطر والاحتمالات ليكونوا كلهم على بيّنة من أن احتمال الفشل والمضاعفات موجود دائماً، وذلك تجنّباً لحدوث صدمة نفسية مؤذية. لكن معنويات الجميع كانت عالية، ولعبت القدرةُ الإلهية دورَها في إتمام كل شيء بنجاح».
وأضاف: «ما كان مستحيلاً قبل ثلاثة أعوام، بات اليوم ممكناً. وقد فتح هذا النجاح الباب أمام أعداد لا يستهان بها من النساء اللواتي يفتقدن الى الرحم للإنجاب من جديد. فقد كنا ننتظر أول ولادة لنعلن للملأ هذه البشرى. كما ان المدة بين زرع الرحم وزرْع جنين فيه قد تضاءلت. ففي تركيا حيث حصلت عملية مماثلة قبل عشرة أعوام، انتظرت الأم طويلاً قبل أن تتم عملية الحمل، أما ريهام فقد تم زرع الأجنّة في رحمها بعد مضي 11 شهراً فقط على الزرع. وربما بات ممكناً عند التأكد من أن حالة الرحم جيدة زرع الأجنة بعد ستة أشهر. والخبر الأفضل أن أدوية تخفيض المناعة ليس لها تأثير سلبي على الجنين، وقد اكتشفنا ذلك عند مريضات خضعن لعملية زرع كلية، وبعدها حملن وأنحبن أثناء تناولهن الأدوية، لكن كان عليهن الخضوع لمراقبة طبية دقيقة».
ويؤكد د. حاج ان الإطار المعنوي و اللوجستي والتقني الذي أمّنتْه مستشفى بلفو كان مثالياً وحاسماً في إنجاح العملية وإيصالها الى خواتيمها السعيدة، موضحاً أنه بعد فترة طويلة من المراوحة التي شهدها زرع الأعضاء جاء زرع الرحم ليبث الحياة فيه من جديد، ومُبْدياً رضى كاملاً عن هذا الإنجاز العلمي والطبي الكبير الذي فتح الباب لإنجازات أعظم على صعيد زرع الأعضاء.
«آية» طفلة الحب والمعجزات
اليوم ريهام أمٌّ سعيدة بطفلتها المعجزة «آية»، تشكر ربها على هذه النعمة وتشكر والدتها التي منحتْها الحياة مرتين، مرة حين ولدتْها ومرة حين ولدت ابنتها من رحم جمع بين أجيال ثلاثة. هي التي رفضت في البدء فكرة الزواج حين علمت بحالتها، وجدت في زوجها خليل البواردي سنداً لها وداعماً لكل خطوة من خطواتها، فالحب يحقق المعجزات على كل الصعد.
سعيدة هي الى حد عدم التصديق، فحين علمتْ بنجاح حملها ورغم حقيقة الواقع ظنّتْه حلماً. أرادت التأكد، وحين رأت الجنين في بطنها عبر التصوير الصوتي خُيّل إليها وكأنه يلوّح لها بيده. وعندها اشتعلتْ فيها مشاعر الأمومة وولّدت لدى الزوج مشاعر أبوةٍ فياضة، فراح يرجو ابنته الجنين أن تخرج بخيرٍ الى الحياة بين أحضان والديْن محبّيْن انتظرا معجزةَ ولادتها طويلاً.
هنيئاً لريهام وخليل بمولودتهما الحلوة والعقبى للمولود الثاني وهنيئاً لنساء العالم العربي هذا الأمل المستجدّ بالأمومة، ومبروك للبنان هذا النجاح المدوي في خضم مآسيه الكثيرة.