لم تكن السنوات الخمس عشرة التي تولى فيها سمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، طيب الله ثراه، مسند الإمارة، عادية وعابرة، بل كانت حافلة بكل ألوان الطيف السياسي الزاخر، سواء على المستوى المحلي الذي كان فيه خطاب سموه السياسي قوياً وفعالاً، ورسم دائرة انصهر فيها الحاكم والمحكوم، لتعبر عن قوة الترابط بين الطرفين، فيما كانت السياسة الخارجية تتحرك، على مختلف المستويات والاتصالات والعلاقات السياسية في سبع دوائر، تتمثل الدائرة الخليجية، والعربية، والإسلامية، وعدم الانحياز، والحوار بين الشمال والجنوب، والعلاقات الثنائية الدولية، والمجتمع الدولي (الأمم المتحدة).
واستعرضت دراستان علميتان خطاب الإصلاح والتنمية في فكر المغفور له، ومفردات السياسة الخارجية لدولة الكويت كما يعكسها الخطاب السياسي، أعدها مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية التابع لجامعة الكويت الذي يُديره الدكتور فيصل أبوصليب. وقام الدكتور فهد يوسف الفضالة بإعداد الدراستين، وناقش بإسهاب ثلاثية الإصلاح والتنمية والسياسة الخارجية لدولة الكويت، في ضوء الفكر السياسي للأمير الراحل، حيث ترجمت هذه الخطابات رؤيته الإصلاحية والتنموية والسياسية في إدارة شؤون الدولة الداخلية وعلاقاتها السياسية الخارجية بدول المحيط العربي ودول العالم، وتعكس هذه الخطابات الفكر والرؤية السياسية للأمير الراحل، طيب الله ثراه، والثوابت الأساسية التي صار عليها الخطاب السياسي الكويتي الذي میز المؤسسة السياسية الكويتية قبل وإبان فترة حكم الراحل.
وقام مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية بجامعة الكويت بإعادة إصدار هاتين الدراستين العلميتين، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة المغفور له سمو الشيخ صباح الأحمد، طيب الله ثراه، التي توافق، 29 سبتمبر، في إصدار مشترك تحت مسمى «السياسة الداخلية والخارجية لدولة الكويت – قراءة في الخطاب السياسي للأمير الراحل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح»، حيث يتضمن هذا الإصدار الدراستين وتناقشان الفكر والشخصية السياسية للأمير الراحل في ضوء الخطاب السياسي له، إبان توليه رئاسة مجلس الوزراء ومسند الإمارة.
الدائرة المحلية: تفاعل الحاكم والمحكوم
سلط الكتاب أضواءً على الخطاب السياسي للأمير الراحل الذي تبنى رؤية شاملة وعميقة استمرت بنفس النهج طول فترة حكمه والتي استمرت قرابة 15 عاماً (يناير 2006 – سبتمبر 2020) على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية لدولة الكويت، وكان لهذه الرؤية الشاملة دور واضح على مسيرة التنمية والإصلاح في الكويت، طالت مختلف قطاعات الدولة وعلى رأسها القطاع الاقتصادي والسياسي.
وبيّن الكتاب، أن الخطاب السياسي للأمير الراحل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد يعد شكلاً من أشكال التفاعل الاجتماعي بينه وبين مواطنيه، حيث أشكال التعبير المستخدمة من قبل النخبة الحاكمة، لإيصال الأفكار إلى الجمهور ضمن عملية تفاعلية يحصل بتحليلها ومعالجتها والرد عليها بصورة سياسات أو قرارات، أو مخرجات النظام، ويعكس الخطاب السياسي للأمير الراحل طبيعة العلاقة بين النظام الحاكم والمجتمع وتطوره وثقافته، وتظهر مدى فاعليته بالقدر الذي يحظى به من التأثير في توجيه المجتمع، وتحديد الإشكالية السياسية وتشخيصها، وتصوير واقع سياسي معين، ومفاهيم سياسية في محيط اجتماعي يراد إفهامها للمتلقين، فالخطاب السياسي الكويتي هو خطاب السلطة الذي يوجه عن قصد نحو المتلقي للتأثير فيه، وإقناعه بالمضمون الذي يتضمن أفكاراً سياسية، أو يكون موضوعه سیاسياً.
الخطاب السياسي: قوة صياغة السياسات والأهداف وصدق المعلومة
بحسب الكتاب، فإنه بتحليل شخصية صاحب الخطاب السياسي، وهو الأمير الراحل سمو الشيخ صباح الأحمد، تبرز لدينا عدداً من السمات الشخصية التي يتمتع بها ومنها وعيه السياسي، ومدى معرفته وادراكه بالقضايا والمؤسسات السياسية على مختلف المستويات المحلية والعربية والدولية، وثقافته السياسية الواسعة التي تظهر جلية في استشهاداته ومقارناته، حيث يتسم الخطاب السياسي للراحل الكبير بالقوة التي تظهر من خلال انسجامه وتناغمه الداخلي، وكفاءة وقوة الخطاب في صياغة السياسات والأهداف ضمن جمل بليغة ومقبولة للجميع، والتي تجعلهم يؤمنون بها ويسعون لتحقيقها، كما تتميز شخصية الأمير الراحل بالثقة والصدق في المعلومات والدقة والوضوح، والقبول من الجماهير، وتمثل الشفافية أحد العناصر المهمة في قوة خطابه السياسي، وقد اتسمت قوة شخصية الراحل الكبير على الدوام بالقوة والمتانة، حيث ساهمت هذه الأبعاد في التأثير الفعال على الجماهير، ومواجهة أي مشكلة أو أزمة بكل ثقة ونجاح، وجعل من خطابه السياسي الداخلي وسيلة ناجحة للتأثير في الجماهير وإقناعهم بأهدافه وأفكارة، ومهاراته في التواصل السياسي الفعال، وضبط السلوك السياسي لدى المواطن بما يحقق مصلحة الوطن العليا، وذلك نظراً للحنكة السياسية والدقة الديبلوماسية التي تمتع بها.
رؤيته السياسية: تعزيز المواطنة وسيادة القانون
ذكر الكتاب أن الخطاب السياسي الداخلي للأمير الراحل، يعبر عن رؤيته إلى ضرورة تناسق الجهود والتقارب بين الحكومة ومجلس الأمة، وبسط سيطرة القانون على الجميع، ونظرته الثاقبة لذلك، وتبنيه سياسة داخلية من المواطنة والقانون من بسط سيادتها على ما دونها من الدعوات الفئوية في المجتمع الكويتي، في إجراء وصف بأنه جاء لدعم دولة القانون في الكويت، ولتحصين الكويت من الفرقة المجتمعية والانقسام الطائفي.
وقد عبر عن ذلك في أحد خطاباته السياسية، حيث قال «الوحدة الوطنية الجامعة المانعة الحاضنة لأبناء هذه الأرض، هي الركن الأساسي في تماسكهم وحرصهم على ثوابتهم وتراثهم الأصيل، وعلى تكريس انتمائهم لوطن لا يعرف التفرقة بين أبنائه، أو أي تصنیف و تقسیم يمس نسيجه الاجتماعي؛ ليبقى وطناً للجميع، يسود بين أبنائه صفاء النفوس وحسن النوايا وحب العمل».
تأثير الربيع العربي: حنكة أوصلت الكويت إلى بر الأمان
أشار الكتاب إلى تعامل الأمير الراحل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد، بحكمة بالغة مع أحداث الربيع العربي في الكويت، فقد استطاع الحفاظ على أمن الكويت، مع السماح بالاحتجاجات السلمية في الوقت نفسه في حالة نادرة تشهدها دولة خليجية، وقد عبر خطابه السياسي الداخلي في ذلك الوقت عن مدى تحمله للمسؤولية في إصلاح أحوال البلاد والحفاظ على مصالح الشعب.
وقد تمثل ذلك في القيادة الرشيدة وحنكته في الحكم التي أوصلت البلاد إلى بر الأمان متجاوزة أحلك الظروف، أما على صعيد خطابه السياسي الخارجي، فقد اتسم بالكثير من الموضوعية والمنطقية في معالجة الأمور.
وفي ما يخص شأن الربيع العربي أشار إلى الآثار السلبية الناتجة عنه، وعبر عند ذلك باعتبار أن الربيع العربي وهم سيطيح باستقرار وأمن البلاد العربية، وسيعطل التنمية والبناء، ودعا إلى استخلاص العبر من ذلك وتصحيح العديد من مسارات العمل؛ لتحصين المجتمع العربي وتماسك جبهته الداخلية، وتحقيق تطلعات الشعوب المشروعة.
طرح إصلاحي وتنموي بدعم اقتصادي وإداري وسياسي
بحسب الخطاب السياسي الكويتي، فإن خطط التنمية هي الإطار المشترك لكل من الإصلاح والتنمية، وكثيراً ما أتت مفردة «الإصلاح» معطوفة على مفردة «التنمية»، بمعنی أن التنمية والإصلاح متلازمان، فلا تنمية من دون تنفيذ إصلاح حقيقي، ولا إصلاح حقيقياً من دون استهداف تنمية حقيقية، كما وردت مفردة «الإصلاح» كثيراً بصيغة المضاف إليه، بما يكشف تعدد المجالات التي يجب أن يشملها الإصلاح حتى يتسنى الوصول إلى التنمية. وردت مفردة «الإصلاح» ليس باعتباره مقصوداً من أجل التنمية فقط، وإنما أيضا لاعتبارات تتعلق بظروف العولمة وضرورة الانفتاح.
وجاء الخطاب السياسي متضمناً مواصفات التنمية، وما تعنيه لوطن والمواطن، مع التركيز على كيفية تحقيق التنمية والإصلاح، وتوضيح القوى المحورية الفاعلة (المشاركين في التنمية والإصلاح) وما يرتبط بذلك من مناقضات وتحديات، ومنها:
أ – مواصفات التنمية: حيث ابعادها يطرح الخطاب السياسي رؤية، مفادها أن التنمية لابد أن تتصف بالواقعية والاستدامة والقصدية والهدف، وأيضا بالشمولية في مجالاتها الموضوعية وأبعادها البشرية ومداها الزمني.
ب – مشاركات التنمية والإصلاح: عكس الخطاب الدور الأساسي للحكومة في تحقيق الإصلاح والتنمية، وفي الوقت نفسه يرى أن للقطاع الخاص دوراً فاعلاً وأساسياً في ذلك، كما يؤكد دور الشعب الكويتي، والفعاليات الأجنبية، والفعاليات الاقتصادية، ومؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، وقوة العمل الوافدة.
ج- مدعمات التنمية والإصلاح: عكس الخطاب اهتماماً شديداً بمدعمات التنمية والإصلاح، حيث ركز على الكيفية والوسائل، بمعنى المسار الذي يتعين أن يسلكه المجتمع والدولة لتحقيق التنمية والإصلاح، ومنها المدعمات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية والسياسية.
السياسة الخارجية: التزام بالمبادئ والقيم الإنسانية
وفي الدراسة الثانية، استعرضت مفردات السياسة الخارجية لدولة الكويت كما يعكسها الخطاب السياسي، وخلصت نتائج الدراسة إلى أن الخطاب السياسي الكويتي يعبر عن تحرك السياسة الكويتية على مختلف المستويات والاتصالات والعلاقات السياسية في سبع دوائر، تتمثل الدائرة الخليجية، الدائرة العربية، الدائرة الإسلامية، دائرة عدم الانحياز، دائرة الحوار بين الشمال والجنوب، دائرة العلاقات الثنائية الدولية، دائرة المجتمع الدولي (الأمم المتحدة).
وكشفت نتائج الدراسة أيضاً عن أن السياسة الكويتية تركز على موضوعات مهمة تمثل قضایا حيوية على الأجندة السياسية الدولية، بما يوضح مساهمة الكويت في إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الإقليمية والدولية. وفي ذلك يعبر الخطاب السياسي الكويتي عن التزام بالمبادئ والقيم الإنسانية، فهو يؤكد على هذه القيم ويدافع عنها، فقد جاءت المفردات المعبرة عن القضايا بنسبة 65 في المئة من مجمل المفردات الواردة في الخطاب السياسي الكويتي، كما جاءت المفردات المعبرة عن القيم بنسبة 35 في المئة، وهناك تأكيد شديد على الالتزام بقيم العدالة والحرية والمساعدة والتعاون والثقة كقیم مرغوبة في مفردات الخطاب السياسي الكويتي. وفي الشق الآخر تظهر قيم سلبية رفضها هذا الخطاب، حيث عبر عن الرفض القاطع لقيم الفوضى والظلم والتحيز والتشرذم.
مساعدات إنمائية واستقرار دولي
كشفت نتائج الدراسة الحالية عن أن الخطاب السياسي الكويتي في توجهاته الاستراتيجية على مستوى الدوائر المختلفة يستخدم مفردات تعكس سياسة خارجية نشطة ومنفتحة، تمزج بين المبادرات والاستجابات في تعاملها عامة، وفي ضوء ذلك، يمكن بلورة توجهات السياسة الخارجية لدولة الكويت مع التطورات والمستجدات المحيطة بالمنطقة بصفة خاصة، وبالشأن العالمي بصفة عامة في تعزيز التنمية الاقتصادية وتقديم المساعدات الإنمائية، حيث أسست الكويت أول مؤسسة رسمية لهذا الغرض عام 1961، ممثلة في الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بهدف تقديم القروض الميسرة، لتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية والعالم الثالث.
كما تتمثل توجهات السياسة الخارجية في تحقيق الأمن والاستقرار الدولي، إذ كشفت نتائج الدراسة أن الخطاب السياسي الكويتي شدد على أن الكويت لا تنفصل عن محيطها الخليجي والعربي وقضايا أمتها العربية، وما التطورات الجارية في المنطقة سياسياً وعسكرياً إلا انعكاس لعجز النظام الدولي عن إيجاد حلول لقضية العرب الأولى فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، فآثار هذا الصراع ماثلة وبصورة كبيرة في مفردات الخطاب السياسي الكويتي المعاصر، خصوصا في دائرة الاهتمام العربية، حيث تظهر مفردات حقوق الشعب الفلسطيني، والقدس واللاجئين وبناء المستوطنات، وفي دائرة الاهتمام الدولية، حيث تظهر مفردات وقضايا مهمة منها قضايا الإرهاب الدولي والعنف والتدخلات العسكرية في المنطقة.
وأوضحت الدراسة أن الخطاب السياسي الكويتي تضمن مصطلحات ذات دلالة شديدة الأهمية لرسالة الأمم المتحدة، مثل احترام الشرعية الدولية، تعزيز دور الأمم المتحدة، تعزيز العمل الدولي، احترام القانون الدولي. کما دعا الخطاب السياسي الكويتي إلى التعامل الإيجابي مع قضية «إصلاح الأمم المتحدة والأجهزة التابعة لها وأن تكون قضية التنمية العالمية على رأس أولويات المنظمة»، وشدد الخطاب على أن دولة الكويت منذ انضمامها إلى الأمم المتحدة عام 1963م التزمت بمساهماتها في كافة البرامج الدولية لخلق الشراكة العالمية من أجل التنمية».
العلاقات مع العراق: بناء علاقات متينة ومد يد الإخاء
ظل الخطاب السياسي الكويتي المعاصر، يعمل على بلورة علاقة جوهرية إيجابية من جانب الكويت نحو العراق نظاماً وشعباً، وتقديم الدعم الكامل لقضاياه، والوقوف مع حروبه ومحنه، والمساهمة في تحريره من نظام صدام البائد الذي احتل الكويت ومارس الإرهاب على شعبها.
وفي الخطاب السياسي الكويتي، يشير سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، في مناسبات عديدة إلى أن الكويت «تمد يد الإخاء والمحبة إلى الشعب العراقي الشقيق ومساعدته في تجاوز ما يعترضه من عقبات لبناء عراق المستقبل»، بهذه الدرجة من الصدق والوضوح والشفافية كانت اتجاهات الخطاب السياسي الكويتي المعاصر نحو العراق.
كما كشف تحلیل الخطاب السياسي الكويتي، عن أن مفردات السياسة الخارجية في إطار تنمية العلاقات الثنائية الدولية، قد اقترنت بدول العالم الإسلامي والتي تربطها بالكويت روابط الدين الإسلامي ومشاركة الكويت في المنظمات الإسلامية المتعددة، إضافة إلى دول عدم الانحياز والتي تربطها أيضا بالكويت علاقات سياسية تاريخية، باعتبار الكويت عضواً نشطاً في حركة عدم الانحياز خصوصاً خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، من دون إخلال ذلك بعلاقتها مع الدول الصديقة والحليفة، مثل الولايات المتحدة، اليابان، کوریا، الصين، الهند، دول الاتحاد الأوروبي.