فيلم رعب في «مصحة عقلية» بلبنان

مرضى يعيشون من قلّة الموت… بعضهم تحوّل هياكل عظمية، وكلهم موتى أحياء يعيشون في ظروف صاعقة تنتهك كرامة الإنسان. أشباه أشخاص يتقاسمون أماكنهم مع الحشرات والنفايات وبقايا القوارض، خبزهم عفن يغزوه السوس ووجباتهم حفنة من الملفوف لا تكاد تسد الرمق.

صور مروعة صدمت لبنان وتعكس واقعاً أشد إيلاماً يلامس الجريمة ضد الإنسانية خرجت الى العلن مع انتشار فيديوهات لمركز «سانتا – ماريا» في منطقة رأس أسطا اللبنانية (قضاء جبيل) يفترض أنه يعنى بمرضى يعانون أمراضاً عقلية وعصبية ومن ذوي الاحتياجات الخاصة، فإذ به يتحول مسرحاً لفيلم رعبٍ ضحاياه مواطنون ظلمتهم الحياة أولاً وجاء استهتار المسؤولين ليعمّق السكين في الجرح ويتركهم فريسة لأبشع أنواع التعذيب المعنوي والمادي.

كان يجب أن تخرج المأساة إلى العلن وتهزّ صورها المؤلمة الضمائر حتى تستفيق وزارة الصحة ومعها الدولة اللبنانية إلى واجباتها تجاه مواطنيها، لا سيما الفئات الأضعف بينهم ذوي الاحتياجات الخاصة والأمراض العقلية والنفسية.

صورٌ أبعد من أن تُصدَّق تضع الإصبع على «أمراض» تتفشى بصمتٍ في المجتمع اللبناني في زمن انهيارٍ شامل لم يعتقد كثيرون أنه طاول القِيَم الإنسانية التي «دُفنت» في هذا المركز الذي كان مرضاه منسيين في آلامهم وعذاباتهم.

من «سانتا ماريا»، انطلقت الفضيحة لتتدحرج ككرة الثلج وسط الرأي العام اللبناني والمسؤولين.

مأساة إنسانية كان يمكن أن تبقى طي الكتمان لو لم تبادر جمعية «وتعاونوا» الإنسانية، وعبر أحد ناشطيها، إلى توثيق ما رآه ورفاقه في هذا المركز من صور تهتزّ لها الضمائر…. مرضى نَهَشَ نقص التغذية وسوء المعاملة أجسادهم التي غزتْها الأمراض نتيجة تعايشهم مع القذارة المحيطة بهم من كل صوب، وفتك الربو برئة العديد منهم بسب الرطوبة المعششة في الجدران والمساحات.

يتعايشون مع المرض والعنف والقذارة

غرف المرضى تملؤها النفايات وبقايا السجائر، وكأنها لم تعرف أدوات التنظيف منذ دهر.

أسرّتهم مرتع للحشرات، والفرش تغزوها البقع وتستوطن فيها الرطوبة، والأغطية كما ظهرت في الفيديو قذرة تراكمت عليها الأوساخ.

الحمامات أبشع من أن توصف وأقذر من أن يتخيلها إنسان لا ماء فيها ولا أي مقومات نظافة، بل قذارة متراكمة مقززة.

أما الصورة الأقسى، فمنظر ذلك المريض الجالس بخوف على سريره وقد تحوّل جسمه كومة من العظام المنهكة.

بعض الشهادات لمرضى من داخل المركز كانت كفيلة بإظهار المأساة التي يعيشونها: لا طعام، لا طبابة، لا أدوية ولا نظافة. ضربٌ وإهانات وتعنيف دائم.

فطورهم كما عشاؤهم، خبز مبلول بالماء.

أما غداؤهم، فكمشة أرز مع ملفوف. اللحوم لا تعرف إلى صحونهم طريقاً ولا الفاكهة، ووحدها تفاحة من وقت إلى آخَر تخفف عنهم بعض الجوع.

كل مقومات الحياة الإنسانية مفقودة في هذا المركز الذي كان يتستر بمهارة على ما يحدث فيه. وبدأت رحلة كشف «الجريمة» حين تلقت جمعية «وتعاونوا» اتصالات من أهالي بعض المرضى الموجودين في المركز تطلب المساعدة.

ولم تتوان الجمعية عن الاستجابة للطلب وقصدت المركز الواقع في منطقة عنايا الجبلية وسعت لتأمين التغذية لهؤلاء المرضى المقيمين فيه، ودأبت على زيارة المكان بشكل دوري، لكن الزيارة كانت تنحصر في غرفة الطعام، حيث ظنّ الناشطون أن التغذية المُناسِبة التي يحملونها إلى نزلاء المركز كفيلة بتحسين حالهم.

لكن حين رأى هؤلاء أن الأمر أبعد من تأمين الطعام، سعوا لمزيد من استكشاف المكان، وهنا كانت الصدمة الكبرى حيث دخلوا إلى الطوابق ورأوا أبشع تجليات الاستخفاف بالروح البشرية.

حالة مرعبة داخل الطوابق والغرف ومرضى كأنهم أموات أحياء.

والأقسى مريض مربوط إلى سرير حديدي لمنْعه من الحركة وكأنه مشهد من زريبة.

وهنا كان لا بد من كشف الستار وإظهار حقيقة المركز إلى الرأي العام اللبناني والطلب إلى المسؤولين التحرك بسرعة لإنقاذ الضحايا من موت محتم وسوء المعاملة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة ضد الإنسانية.

وفي الواقع، كان يعيش في المركز 70 مريضاً، 55 رجلاً و 15 امرأة، وبينهم نحو 25 مريضاً مجهول الهوية.

وكان قد توفي منهم خمسة مرضى نتيجة سوء العناية الطبية وسوء التغذية.

ويتولى العمل في الطوابق الثلاثة عامل سوري يشرف على ما يسمى «النظافة» وعاملة سورية تهتم بالمطبخ وطهو الأرز والملفوف وممرضة يفترض أن تعنى بالمرضى، علماً أن المركز يتلقى سنوياً 900 مليون ليرة كمساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية للاهتمام بمرضاه. وله فرع آخر في منطقة «حالات» الساحلية يبدو في وضع أفضل من المركز المذكور.

الوزارات تستفيق

ومع انتشار الفيديو على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام ودعوة الناشط عفيف شومان للمسؤولين لمتابعة القضية، تحرك وزير الصحة الدكتور فراس الأبيض ووزير الشؤون الاجتماعية الدكتور هكتور حجار وقاما أمس مع وفد ضم مدير دائرة العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزف حلو وفريق من خبراء مكتب منظمة الصحة العالمية في لبنان بتفقد مركز سانتا ماريا، واطلعوا على أوضاع المرضى النفسيين الذين يعالجون في المركز وما يتلقونه من عناية وخدمات.

وأكدت الجولة الميدانية للوفد في داخل أقسام المركز ما كانت الفيديوهات قد أظهرته سابقاً، وظهر جلياً التدني الكبير في الخدمات، سواء من ناحية الدواء أو الغذاء أو النظافة وظروف العيش التي بدت بالغة في مأسويتها.

مدير المركز جوزف حرب حاول تبرير الأمر بشرح ما يواجهه من صعوبات لتأمين احتياجات المرضى في ظل الأزمة المالية الخانقة التي يشهدها لبنان، وعلى الأخص القطاع الصحي فيه، مؤكداً أنه «لم يتلق المستحقات العائدة للمركز منذ بداية هذه السنة وقيمتها 900 مليون ليرة لبنانية، ما يشكل عائقاً كبيراً أمام تأمين الحاجات الأولية من مياه ومازوت وطعام».

وفي ضوء ذلك، اتخذ وزير الصحة القرار بنقل المرضى إلى المركز الثاني التابع لسانتا- ماريا في منطقة حالات، والذي يتمتع بظروف أفضل من مركز رأس أسطا، على أن يتم تأهيل الأخير في فترة سريعة إفساحاً في المجال لإعادة المرضى إليه بعد التأكد من قدرته على استقبالهم.

وتفقد حلو مركز حالات، تمهيداً لإعداد المكان الملائم للمرضى قبل إتمام نقلهم بالتنسيق مع الصليب الأحمر اللبناني.

صورة مخيفة عن واقع لبنان

وفتحت هذه القضية الإنسانية الباب على مصراعيه لإظهار حالة الانهيار الشامل الذي وصل إليه لبنان وصار يطول إنسانه في كرامته وحياته وحقه بالطبابة والغذاء والعيش الكريم.

فالقضية أبعد من مركز معزول يعاني تدني الخدمات، لا بل إنها تطول كل الجمعيات والمراكز التي تعنى بالحالات الإنسانية وذوي الاحتياجات الخاصة في ظل عدم القدرة المادية على تأمين الخدمات وتباطؤ الوزارة في تسديد مستحقاتها لهذه الجمعيات وإن باتت لا تسدّ عجزها.

من هنا أكد وزير الصحة في مؤتمر صحافي عقد إثر جولته في المركز أننا «لا نقبل بأن يكون المرضى ومصحاتنا ومستشفياتنا بهذا الوضع غير المقبول وغير المُرْضي على الإطلاق».

وأوضح أنه «سيعمل على تنفيذ خطة من شقين: الأول يتعلق بمتابعة مرضى سانتا ماريا والثاني يتعلق بمتابعة مجمل مستشفيات الفئة الثانية التي تهتمّ بالمرضى النفسيين والعقليين والذين يحتاجون إلى إعادة تأهيل لأن بعض المشاكل ليس محصوراً هنا، بل هو يتكرر في أماكن أخرى مشابهة».

واعترف الوزير صراحة بـ «أن خلفية الموضوع ترتبط بعدم تحويل أي مبلغ مالي لهذه المراكز عن مستحقاتها للعام 2021 بسبب التأخر في إنجاز العقود التي تنتظر تحويل الاعتمادات للدفع.

وهذا ينطبق أيضاً على مستشفيات الفئة الأولى والجمعيات، ما يتسبب بمشكلة كبيرة».

وأشار إلى أنه «أثار الأمر مع كل من رئيسي الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتسريع الحل، علماً أن المستحقات غير المسددة تحتسب على أساس السعر الرسمي للدولار، أي ألف وخمسمئة ليرة لبنانية، في وقت أن الأكلاف مرتفعة جداً، بدءاً من سعر المازوت وما إلى ذلك».

وأوضح الأبيض أنه «ليس في معرض تبرير الوضع غير المقبول للمركز، بل تسليط الضوء على الواقع الصعب الذي تواجهه المستشفيات والذي يتطلب دعماً كي تتمكن من أداء واجبها»، معلناً عن «فتح تحقيق لمحاسبة المسؤولين وتحديد أسباب وصول الوضع في مركز سانتا ماريا إلى ما وصل إليه من دون معرفة وزارة الصحة العامة التي يعود إليها واجب التأكد من أن مرضاها يعالجون في ظروف جيدة من دون أي تقصير».

وفي غياب قدرة الدولة اللبنانية، هل يكون الحل عبر منظمة الصحة العالمية؟ إذ أعلن الوزير أن فريقاً منها سيعمل مع مديرية العناية الطبية في وزارة الصحة العامة وبرنامج الصحة النفسية على إعداد تقرير لتحديد الواقع في كل مستشفيات الفئة الثانية، وتحديد الخطوط الرئيسية للمعالجة وفتْح الباب لإمكان التمويل الخارجي.

شاهد أيضاً

مذا يحدث لجسمك إن نمت أقل من 6 ساعات نوم في اليلة؟

تقول العديد من الدراسات إن البالغين يجب أن يحصلوا على سبع إلى تسع ساعات نوم …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.