امتلاك أي بلد لكميات ضخمة من الموارد الطبيعية لا يعني بالضرورة أن هذا البلد متطور، وأن مواطنيه يعيشون في ثراء ورفاهية. فقد ضلت دول كثيرة طريقها وسقطت في فخ لعنة الموارد، وفشلت في الاستفادة من وفرة الموارد الطبيعية في خلق ازدهار اقتصادي طويل الأجل.
ومع ذلك، فإن تعامل بلد مثل ماليزيا مع حظها من هذه الموارد الثمينة والمحدودة يعد مثالا على كيفية قيام إدارتها بالشكل الأفضل في هذا المجال على نحو سليم. حيث نجح قطاع النفط والغاز في تثبيت أقدامه على الساحة العالمية، كما تمكن في الوقت نفسه من خلق شبكة أعمال مزدهرة تشمل مئات الشركات المحلية التي يعمل بها عشرات الآلاف من المواطنين.
ولكن نجاح ماليزيا في هذا الاتجاه لم يحدث بين عشية وضحاها. فقد أدى التخطيط الدقيق من البداية بجانب الإجراءات التشريعية الفعالة إلى نجاح هذا البلد في إدارة موارده على نحو سليم. ولكن هذا حدث فقط حين اهتمت ماليزيا بما هو أغلى من النفط: مواردها البشرية.
تاريخها مع النفط
كان إنتاج النفط والغاز هو الدعامة الأساسية لنمو الاقتصاد الماليزي منذ أن تم اكتشاف النفط لأول مرة في البلاد من قبل شركة شل في عام 1909 في ولاية ساراواك. وبدأ الإنتاج في أول بئر تم حفرها في عام 1910، بمعدل بلغ 83 برميلا يوميًا، وصلت إلى 15 ألف برميل يوميًا في عام 1929.
في الستينات، توسعت رقعة الأنشطة البترولية في البلاد على خلفية اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز بالحقول البحرية في بورنيو. وفي أواخر هذا العقد بدأت أنشطة التنقيب عن النفط في الساحل الشرقي لشبه الجزيرة الماليزية. وخلال السبعينات كانت بعض حقول النفط في ماليزيا تنتج ما يتراوح بين 90 و99 ألف برميل يوميًا.
في البداية، هيمنت شركات النفط الأجنبية على صناعة النفط والغاز في ماليزيا، وكانت كل من «شل» و«إيسو» من بين اللاعبين الرئيسيين. وبعد ذلك تبادلت الشركات الأجنبية السيطرة على هذا القطاع الحيوي لتنتقل الدفة إلى شركات أجنبية أخرى مثل «كونكو» و«موبيل» و«آكيتين» و«أوسينيك» و«تيسيكي» واستمر الحال كذلك إلى أن ظهرت «بتروناس» الماليزية في عام 1974.
أدركت الحكومة أنه من أجل ضمان استفادة ماليزيا وشعبها من هذه الموارد فإنها بحاجة إلى أن تكون صاحبة الكلمة العليا في كيفية التحكم والاستفادة من مواردها، وفي سعيها لتحقيق ذلك أسست «بتروناس» من أجل إدارة كامل مواردها من النفط والغاز.
قبل عام 1974 كانت الحكومات المحلية للولايات الماليزية تقوم بمنح الشركات الأجنبية ما يشبه التنازلات البترولية، مما منحها حقوقًا حصرية في استكشاف الثروات النفطية وإنتاجها. ولكن على إثر اعتماد البرلمان الماليزي لقانون تنمية البترول في 1974، تم سحب كل التراخيص من هذه الشركات ومنح «بتروناس» كامل السيطرة على موارد البلاد.
منذ ذلك الحين، ويتم استكشاف النفط والغاز في ماليزيا بموجب ما يسمى بـ«عقود تقاسم الإنتاج»، حيث تقوم «بتروناس» بإعطاء حقوق الاستكشاف للشركات الأجنبية بعد أن توافق الأخيرة على توفير التمويل وتحمل كل مخاطر أنشطة التنقيب مقابل حصة من الإنتاج.
وفي السابع عشر من أغسطس عام 1974، تم تأسيس الشركة الوطنية الماليزية للنفط والغاز (بتروناس). ولكن فكرة تأسيسها تم تسليط الضوء عليها لأول مرة قبل ذلك بثلاثة أعوام وتحديدًا في الخطة الخمسية للحكومة في عام 1971. وهناك عدة عوامل لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل هذه الشركة، أربعة منها جديرة بالذكر:
1 – ما دفع ماليزيا إلى محاولة الابتعاد عن شركات النفط الأجنبية الكبرى هو رغبة البلاد في الحد من اعتمادها على الأجانب، الذين لديهم أجنداتهم ومصالحهم الخاصة التي قد تتقاطع أو لا تتقاطع مع أجندة ومصالح الماليزيين.
2 – اعتقدت الحكومة الماليزية أن امتلاك البلاد لشركة نفط وطنية تدير مواردها النفطية سوف يضمن للحكومة الاستفادة من رأس المال الدولي دون أن تضطر للخضوع أو الاستجابة لإملاءات خارجية.
3 – أدت أزمة النفط في الفترة بين عامي 1973 و1974 إلى زيادة اعتماد ماليزيا على النفط الأجنبي. ولهذا اعتقد الماليزيون أنه إذا أصبح لديهم شركة نفط وطنية تدير مواردهم فبإمكانهم تلبية احتياجاتهم الخاصة من النفط والغاز، بدلًا من استيراده بينما يملكونه بالفعل.
4 – أدى الاستقرار السياسي للبلاد في ذلك الوقت إلى تعزيز الإيمان بقرار إنشاء شركة وطنية تدير موارد ماليزيا من النفط والغاز.
ويمكن تقسيم تاريخ «بتروناس» إلى 4 مراحل. الأولى هي مرحلة التكوين في السبعينات، حيث كان الدور الرئيسي لها في ذلك الوقت هو إدارة موارد البلاد من النفط والغاز من خلال «عقود تقاسم الإنتاج».
في الثمانينات، انتقلت «بتروناس» إلى المرحلة التنموية، حيث بدأت تلعب دور مدير المشروع وتحولت إلى صرح نفطي متكامل. ثم في التسعينات بدأت الشركة في الانخراط في مشاريع خارج ماليزيا، وهو ما يمثل مرحلة العولمة بالنسبة للشركة.
ومع بداية الألفية الثالثة، أصبحت «بتروناس» أحد أبرز كبار اللاعبين العالميين في مجال النفط والغاز، وبعد ما يقرب من 35 عامًا منذ تدشينها، أصبحت عائدات أنشطتها الخارجية تمثل أكثر من %30 من قيمة عوائدها الإجمالية.
وجنبًا إلى جنب مع نمو أعمالها وتوسع أنشطتها، نما عدد العاملين بالشركة من 15 موظفا فقط عند تأسيسها عام 1974 إلى ما يزيد على 51 ألفًا في عام 2017.
إعداد القادة من الداخل
هذا ربما هو الجزء الأكثر إلهاما في التجربة النفطية الماليزية. فمنذ البداية، حرصت «بتروناس» على الاستثمار بكثافة في تنمية رأسمالها البشري من خلال التدريب والتعليم وتنمية المهارات القيادية لموظفيها.
أدى هذا النهج إلى تفريخ مواهب ماليزية قادرة على تطوير وتنمية أعمال الشركة عبر أجيال مختلفة. وتركز «بتروناس» على تعليم وتطوير موظفيها الماليزيين بشدة لأنها تؤمن بأهمية أن يكون لديها رجالها في أي مكان تعمل به الشركة بكل أنحاء العالم.
بعبارة أخرى، يفضل الماليزيون تطوير خبرائهم بدلًا من الاعتماد على الغرباء، ولذلك يحرصون على إعطاء صغار الموظفين الذين ينضمون إلى الشركة في وقت مبكر التعليم المنظم والمستمر في مختلف المجالات، وبالأخص في مجال القيادة.
وفي عام 2011، أطلقت «بتروناس» ما سمته «مركز بتروناس للقيادة»، وهو عبارة عن معهد تعليمي تم بناؤه كامتداد لمعهد أسسته الشركة لذات الغرض في عام 1992، في سعيها لزيادة جهودها في مجال التدريب والتعليم.
ويضم المرفق الجديد أكثر من 40 قاعة تدريب وأكثر من 110 غرف للإقامة. وقدم برامج تعليمية تغطي مجالات كثيرة من بينها القيادة والمهارات الإدارية. وفي المتوسط يحضر حوالي 20 ألفًا من موظفي الشركة برامج التعليم المختلفة سنويًا.
التعليم لا يقتصر على مرحلة معينة، بل يحدث على طول الطريق المهني للموظف داخل «بتروناس». حتى قبل الانضمام إلى الشركة، يتم منح الطلاب بالجامعات التي ترعاها الشركة تدريبات في مجالي الإدارة والقيادة من أجل إعدادهم لبيئة العمل.