تعد التجارة الحرة إحدى الدعائم الهامة التي يقوم عليها النظام الاقتصادي المعاصر، الذي انطلق منذ عام 1945 (نظام بريتون وودز) بتأسيس عدد من المؤسسات الاقتصادية الدولية وأبرزها البنك الدولي وصندوق النقد العالمي.
وكانت الولايات المتحدة أول داعم لإطلاق حرية التجارة منذ وقتها، بوصفها في أول الأمر داعمة للمعسكر الرأسمالي في مواجهة نظيره الشيوعي، ثم بعد ذلك لضمان استمرار النظام الاقتصادي الذي أقامته أميركا نفسها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
السياسات الحمائية
واستمرت الولايات المتحدة بعد ذلك في معارضة أي سياسات تناقض حرية التجارة، لذلك كانت الدهشة و»الصدمة» في الأسواق المالية والأوساط الاقتصادية العالمية كبيرة بعد أن أقر الرئيس الأميركي فرض إجراءات حمائية لصالح صناعتي الصلب والألمنيوم الأميركيتين.
والسياسات الحمائية عبارة عن مجموعة من الإجراءات التي تقوم بها الحكومات من أجل ضمان استقرار صناعاتها المحلية، وغالبًا ما تستخدم إذا كانت تلك الصناعات في مرحلة النشأة وتواجه أخرى مستقرة ومتقدمة.
وللسياسات الحمائية أكثر من شكل، أولها هو ما قام به ترامب من فرض تعرفة جمركية على الواردات من سلع معينة بما يتيح للصناعات المحلية التمتع بميزة سعرية نسبية في مواجهة المنتج المستورد.
وعلى الرغم من أن اتفاقية التجارة الحرة (جات) تتيح للحكومات فرض تلك التعريفة في حالة مواجهة ظاهرة «الإغراق» (وتعني بيع دولة لمنتج معين بسعر يقل عن سعر التكلفة بهدف السيطرة على الحصة الأكبر من السوق وإفلاس الصناعات المحلية) إلا أن هذا لم يحدث مع الولايات المتحدة.
وتمتد الإجراءات الحمائية لتشمل تقديم الدعم المادي واللوجستي لبعض الصناعات، ويشكل ذلك وسيلة أخرى لمنح الصناعات المحلية ميزة في مواجهة الأجنبية، كما أن هناك وسيلة تعتمد على فرض حصص محددة من الواردات من بعض السلع.
وغالبًا ما يتم فرض تلك الحصص إذا كان الإنتاج المحلي غير قادر على تلبية الاحتياجات المحلية بشكل تام، لذا فيتم تحديد الحصة من الواردات بناء على حجم العجز المحلي في الإنتاج، ولكن ذلك يخلق ازدواجية في السعر بين منتجين محلي وآخر مستورد.
وتأتي الوسيلة الحمائية الأخيرة في صورة فرض معايير غير واقعية للسلعة المستوردة، بأن يتم وضع معايير عالية للغاية للسلع المستوردة يعجز أي من المنتجين الأجانب عن تلبيتها، وبالتالي يكون ذلك حظرًا غير مباشر على استيراد تلك السلعة.
وجاء التحذير الأبرز من السياسات الحمائية وتأثيراتها السلبية منذ زمن بعيد على لسان المفكر الفرنسي فريدريك باستيا بأن قال «إذا لم نسمح للسلع بعبور الحدود فستعبرها الجيوش» في إشارة إلى أن بعض الدول قد تضطر للحرب لفتح الأسواق المغلقة في وجهها.
أميركا تهدم قواعدها
وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية الحالية قدمت صورة «حمائية» أكبر منذ وصولها للسلطة من خلال الانسحاب من اتفاقية التجارة عبر الأطلنطي، والمطالبة بإعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة في أميركا الشمالية، غير أن أحدًا لم يتصور أن يصل الأمر بواشنطن إلى هذا الحد.
فأميركا التي طالما دعمت التجارة الحرية تذرعت بالأمن القومي من أجل فرض إجراءاتها الحمائية، بدعوى أنه إذا دخلت واشنطن في صدام عسكري مع دولة تعتمد عليها في استيراد الصلب فإن ذلك من شأنه أن يمنح تلك الدولة سلاحًا في مواجهة الولايات المتحدة.
غير أن ذلك لم يمنع التحذيرات المتكررة حول تأثير السياسات الحمائية الجديدة على الاقتصاد الأميركي، فالخاسر الأول من تلك الإجراءات هو المستهلك الأميركي، الذي سيجد نفسه مضطرًا إلى شراء منتجات الصلب والألمنيوم بأسعار تفوق تلك التي اعتاد على الحصول عليها. وسيؤدي ذلك قطعًا إلى موجة تضخمية «كبيرة أو محدودة هذا ما سيتضح لاحقًا»، بل سيؤدي ذلك إلى تأثر الصناعات المحلية سلبًا أيضًا، فالثابت اقتصاديًا أن المنافسة (محلية أو عالمية) هي الدافع الأول من أجل التطور وتقديم أسعار تنافسية والحد من المنافسة يؤثر في تطور الصناعات.
والأمر الأخطر هنا أن في الأمر هدمًا لقواعد أقامتها واشنطن بنفسها للنظام الاقتصادي العالمي، لذا فإنه سيكون في وسع بقية دول العالم أن تفرض إجراءات حمائية بدورها، لأنه إذا كان مؤسس الاقتصاد العالمي الحديث قد فعل، فما الذي يمنع الدول الأخرى من ذلك؟
وحتى لو تمكنت الولايات المتحدة من منع اشتعال حروب تجارية كبيرة مع الصين (أو غيرها) فإنها ستكون مهددة على المدى المنظور باستهداف صادراتها تحديدًا بقيود مختلفة من جانب الدول المتضررة من سياساتها الحمائية، (التي من المتوقع أن تتزايد على المدى المنظور).
قيود مستقبلية على التجارة
وتتوقع صحيفة فايننشال تايمز أن يتم فرض المزيد من القيود على الاستثمارات الصينية في قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وذلك بعد أن قررت الإدارة الأميركية التحقيق في هذا الأمر.
والنتيجة «وفقًا للصحيفة» ستكون سيئة للاقتصاد الأميركي من خلال فرض اضطرار شركات أميركية كبيرة باستثمارات صينية، إما إلى إغلاق أبوابها وإما تقليص شركات صينية لحجم أعمالها، فضلًا عن إيقاف الشركات لتوسعاتها المحتملة.
«عندما نقول «أميركا أولًا» فإن هذا يعني رسالة واضحة للمستثمرين الأجانب بأنه لا مكان لهم هنا، وهذا لا يفيد الاقتصاد بالقطع» هكذا علقت «الإيكونوميست» على الإجراءات الأميركية التي وإن حمت صناعات على المدى القصير فإنها ستؤذي الاقتصاد الأميركي كله آجلًا.
كما أن تخلي الولايات المتحدة عن موقعها كأكبر داعم للاقتصاد الحر من شأنه أن يقوض دعائمه تدريجيًا، ولعل هذا ما يدفع الكونغرس (ديمقراطيون وجمهوريون) إلى إبداء معارضتهم القوية لخطط ترامب نحو المزيد من السياسات الحمائية.